جهاد الزين
رغم الكثافة العالية لمناورات الطبقة السياسية اللبنانية في الاستعداد للاستحقاق الانتخابي، سيكون من الخطأ الفادح النظر إلى الموقف الذي اتخذَتهُ القوى السياسية المسيحية الأساسية بتأييد quot;المشروع الأرثوذكسيquot; لقانون الانتخابات على أنه فقط مجرد مناورة من هذه المناورات لا أكثر.
لا شك أن quot;التكتيكquot; موجود وبقوة وتعدد حسابات بالنسبة لعددٍ من الأطراف المؤيدة لِـquot;المشروع الأرثوذكسيquot;. غير أن الجوهريَّ في هذا التكتيك هو دلالة اللجوء إليه بشكلٍ مشترك من قوى متنافرة ومتخاصمة.
ما هو هذا الجوهري الذي يجب أن يتحوّل إلى نوع من quot;الإنذارquot; للأطراف المحلية الأخرى الكبيرة: حزب الله، حركة أمل، تيار المستقبل، الحزب التقدمي الإشتراكي؟
لنْ يقلّل من معنى الإنذار الموجّه لكل قوى الطائفيات السنية والشيعية والدرزية أن يكون الطرفان المسيطران على البيئة الشيعية قد quot;ادّعياquot; تأييد المشروع الأرثوذكسي مراعاةً لحليفهما الجنرال ميشال عون وبهدف تحويل المشروع إلى حالة انقسامية داخل 14 آذار.فالرسالة الفعلية التي يجب أن تتلقّاها أحزاب س.ش.د. (السنية الشيعية الدرزية) رغم اختلاف حساباتها، هي أن هذا quot;التكتيكquot;يعبّر عن عودة تململ quot;استراتيجيquot; كياني ومن قبل قوى، معظمها- للتذكير-تأتي من مدرسة quot;المسيحية المقاتلةquot; في حرب 1975- 1990، وبعضها من شخصيات مسيحية أخرى غير مارونية وجميعها تحت عباءة البطريرك الماروني في هذا الملف.
الرسالة التي يجب أن تتلقفها أحزاب س.ش.د. هي أن سياسة رفع شعارات الحفاظ على التعايش الطائفي والوطني في مشاريع قوانين الانتخابات لـquot;تخجيلquot; المسيحية السياسية، من قِبَلِ أحزاب السنة والشيعة والدروز، الأحزاب التي هي في أعلى وأقوى تبلورها الطائفي في تاريخ الجمهورية اللبنانية... هذه السياسة لم تعد مُقْنِعة.
لقد بلغت quot;اللعبةquot; إحدى نهاياتها الشعاراتية: فلم يعد ممكنا لأحزاب quot;الحزب الواحدquot; لدى السنة والدروز وquot;الحزبين الواحدquot; لدى الشيعة أن تمارس دينامية فئوية مع مناطق مغلقة وتقول للمسيحيين يجب المحافظة على التنوع في الدوائر المختلطة. هذه الدوائر التي أسّسها، في الواقع، الانتدابُ الفرنسيُّ بصيغٍ اندماجية طموحة (المحافظات الخمس) وحوّلها العهدُ الاستقلالي إلى اندماج أقل وطائفية أكثر مع نشوء quot;حزب الطائفةquot; للمرة الأولى في لبنان بعد عام 1958 في البيئة المسيحية وهو حزب الكتائب، حتى كَرّسَ quot;اتفاقُ الطائفquot; ديناميةَ سيطرةِquot;حزب الطائفةquot; لدى كل من الدروز والشيعة والسنة (والترتيب هنا له علاقة بالأقدمية).
من هي القوى المسيحية التي وَجّهت هذه الرسالة؟ سنعيد تعريف ما هو معروف:
أحزاب quot;المسيحية المقاتلةquot; الباقية، شخصيات مستقلة غير مارونية ومنها من انتماءات على صلة بفريقي 8و14 آذار وكلها برعاية البطريرك الماروني. وهناك طبعا شخصيات مستقلة معارضة للمشروع الأرثوذكسي لأسباب مبدئية أو مصلحية أو كليهما معاً على رأسها طبعا رئيس الجمهورية. غير أن quot;المجرى العامquot; للموقف المسيحي رسمَتهُ القوى المؤيدةُ لـِquot;المشروع الأرثوذكسيquot; بما يذكّر، شكلا على الأقل، بالوضعية المسيحية السياسية أيام منعطف الانتخابات الرئاسية الأخيرة بعد نهاية عهد أمين الجميل وquot;الفيتواتquot; السيئة الحظ التي أطلقها من بكركي تجمع قوى quot;المسيحية المقاتلةquot; يومها.
المشروع صدمة فعلية فهو وإن جعل لبنان دائرة واحدة حَصَرَ التصويتَ داخل كل طائفة بين لوائح متنافسة مع quot;صوت تفضيليquot; لمرشح واحد من كل لائحة. ليس سهلاً تأييدُ مشروعٍ كهذاعلى العديد من النخب المسيحية لما يشكّله من إخراج أحشاء النظام الطائفي إلى الهواء الطلق، فلا تبقى وشيجةٌ شكليّةٌ في العلاقات السياسية لا تنقطع.أما عدم الموافقةعليه، الضمنية أو المعلنة في بيئات س.ش.د. فيتطلّب في المقابل البحث عن تسوية تعلن انتهاءَ نمطٍ سابق من علاقة أحزاب quot;الحزب الواحدquot; في هذه البيئات مع الحالة المسيحية.
المفارقة المثيرة والعميقة أننا نشهد مع هذا النوع من التبنّي شبه quot;الإجماعيquot; الفئوي للمشروع الأرثوذكسي نهاية نهائية لمفاعيل حقبة إدارة النظام السوري للحياة السياسية اللبنانية. أقول نهاية مفاعيل لا نهاية سيطرة طبعاً لأن سيطرة المرجعية السورية انتهت عام 2005 وبقي النفوذ، والآن النظام السوري في سوريا هو الذي دخل المرحلة الانتقالية في مسار تغييره الطويل والحتمي.
نشهد بالتالي نوعاً من استعادة quot;الكبسولةquot; المسيحية اللبنانية من عَرَبَةِ حقبة سابقة بين 1990 و2005 ثم حقبة ما بعد 2005 المضطربة بصراع مرجعياتها الخارجية عبر القوتين السنية اللبنانية ndash;السعودية والشيعية الإيرانية-السورية.
إنها لحظةُquot;تحرّرٍquot; لكبسولة عادت تتبرّم من البقاء داخل المركبة ولكن ليس بمقدرتها البقاء خارجها. وداخل المركبة قوى س.ش.د. منخرطة هنا ومرتبكة هناك في فضاء التحوّل التاريخي في العالم العربي نحو أنماط حكم جديدة فيما في الآن معا على الجزء الآسيوي العربي هناك صِدامٌ جيوبوليتيكيٌّ مذهبيٌّ سنّيٌ شيعي... يعجّ بالتباسات تتعلق بمسيحيي المنطقة. quot;المشروع الأرثوذكسيquot; الذي أطلق فكرتَه سياسيٌّ أرثوذكسيٌّ بقاعيٌّ مُحبَطٌ وغاضبٌ من quot;انهيارquot; إرثه العائلي والشخصي السياسي quot;الاندماجيquot; المنسحقِ- أي هذا الإرث وأمثاله في مناطق مختلطة أخرى- تحت حوافر سيطرة المذهبيتين السياسيّتين الشيعية والسنية،وخصوصا السنية بالنسبة له وهو الياس الفرزلي... هذا quot;المشروع الأرثوذكسيquot; سيتخطى quot;صاحبهquot; وإطاره quot;الأرثوذكسيquot; بعدما تبنّتهُ ولو تكتيكيا quot;المارونية السياسيةquot; وسيظهر في لحظة بروز حالة quot;مسيحيّي المشرق العربيquot; مما يعطي quot;الاكتئابquot; الكامن داخله حساسية إضافية جادة في السياسة اللبنانية. لهذا نتمنى أن تكون نخب المسلمين لا تزال لديها قابليةُ فهم quot;الآخرquot; بل quot;الاهتمامquot; الفعلي ب تأزّمِ quot;الآخرquot; بالمعنى الجاد للكلمة في ظل quot;امتلائهاquot;بأولوياتها المذهبية العاصفة؟
هذا المشروع الأرثوذكسي ndash;أَزْعمُ- لم يولدْ ليُطَبّق. ولكنه سيكون عميق التأثير في السياسة اللبنانية.
وحدها مرة أخرى ضرورات quot;الستاتيكوquot; الدولي ستجعل التسوية حتمية لكن ليست المسيحية السياسية، رغم كل صراعاتها بل عداواتها الذاتية، هي التي ستتراجع وحدها هذه المرة.
كيف؟
لنترك مخيلةَ النظام الطائفي quot;تتعذّبquot; لفترة. فالحكمة الخارجية ستجد مخرجا محترما أو ركيكاً؟
لكن هذه المرة أيضا نرجوكم الكفَّ عن اللغْوِ في الاندماج في بلد الدويلات الطائفية والشحن المذهبي. ل quot;الاندماجquot; أثمان فعلية لا لفظية. وحتى لو صار لبنان داخل بركان بلاد الشام. ولا يمكن إلا أن يكون كذلك.
التعليقات