أمجد ناصر
نحن نعرف أنَّ السياسة لا تتطابق، دائما، مع المبادئ. يمكن أن تلهج باسمها وتتشدق بها، ولكن الفارق بين 'المبادئ' و'السياسات' يظل قائما ويستحيل، على ما يبدو، تجسيره. لم تفعل ذلك الدول التي انبثقت من الأديان (بما في ذلك الدين الاسلامي) ولا الدول التي قامت على أسس نظرية عادلة (الاشتراكية مثلا).
هذا الفارق، أو الهوّة أحيانا، بين المبادئ 'الهادية' والسياسات المُتّبَعة يجد تفسيره في قوة المصالح وقدرتها على هزيمة المبادئ، فضلا عن الطبيعة البشرية الميالة، عموما، الى الاستحواذ والاستئثار.
نادراً ما يتغلب المبدأ على المصلحة. كأنَّ في البدء كان المصلحة! هكذا اعتدنا على أن تكون دساتير الدول في اتجاه وسياساتها في اتجاه آخر. هذا ليس مفاجئا ولا غريبا، خصوصا عندما تعترض 'المصالح الوطنية العليا' طريق المبادئ. هنا تدوس قَدمُ السياسيِّ على رأس المبدأ وتمضي قُدُماً في اتجاه المصلحة.
هذا، إذن، يحصل، إلى هذا الحد أو ذاك، ولكن ان يصل التنافر بين الأمرين الى درجة الخيانة الكاملة والطلاق البائن، فهذا لم نره، في أسطع نماذجه، إلا على يد دولتين هما الولايات المتحدة الامريكية في موقفها الداعم، ماديا ومعنويا، للأبارتهايد الاسرائيلي وروسيا الاتحادية في إمعانها بدعم بشار الأسد، بكل ما أوتيت من قوة، في مواجهة الشعب السوري.
لم تستمت دولتان عظميان في الدفاع عن 'حليف' لهما، في مجلس الأمن وفي ميدان القتال، كما فعلت واشنطن حيال اسرائيل، وموسكو حيال نظام بشار الأسد، ولا أقول حيال سورية لأن الفرق بين زعيم العصابة هذا وسورية كالفرق بين السماء والأرض. واشنطن تفعل هذا لأن اسرائيل، وليس بنيامين نتيناهو أو باراك أو بيريس أو رابين أو حاشياتهم، هي خندقها المتقدم في المنطقة، رأس حربتها الاستعمارية في الشرق الاوسط، على ما كانت تنصُّ عليه أدبياتنا اليسارية سابقا (وهو صحيح حتى لو لم يعد هناك يسار ويساريون)، أما موسكو فهي تدعم بشار الأسد وقادة أجهزة أمنه الذين يختطفون بلدا كبيرا وعريقا اسمه سورية، ويفاوضون عليه ببراميل الديناميت وصواريخ 'سكود'، وربما بالغازات السامة. فإن كانت اسرائيل تمثل مشروعا امبرياليا غربيا عموما وامريكيا خصوصا، وليست بلدا قائما على شخص أو من أجل شخص، فليس لدى نظام بشار الأسد، بالمقابل، من مشروع سوى بشار الأسد. النظام هو بشار وبشار هو النظام حتى وإن أشرك هذا 'النظام' بضعة منتفعين في كعكة السلطة السامة، لكنَّ ذلك لا يغير أن 'النظام' السوري مصمَّمٌ على مقاس بشار بالسنتيميتر وأي تغيير في هذا المقاس هو تغيير لبشار نفسه.. الأمر الذي يفسر لِمَ كان إصلاح النظام في سورية مستحيلاً بوجود عائلة الأسد في السلطة.
' ' '
ومثلما لا تأخذ واشنطن آلام الشعب الفلسطيني ونضالاته التاريخية وآماله المستقبلية في الاعتبار عندما تواصل، على نحو أعمى، دعم اسرائيل، كمشروع، بكل أسباب القوة، ها هي موسكو تفعل الأمر ذاته ولكن مع رجل واحد في سورية لا يملك مشروعا سوى كرسي حكم غارق في الدم. المقارنة بين واشنطن وموسكو واسرائيل ونظام بشار فرضت نفسها علي. كنت أخطط لكتابة مقال عن روسيا التي تقف، بكل صلافة، بلا وازع من ضمير، بلا ذرة أخلاق، وبلا بُعد نظر الى جانب طاغية قتل عشرات الآلاف من أبناء شعبه وجرح مئات الآلاف وشرد ملايين ومسح عن وجه الارض بلدات وأحياء، فوجدتُ رائدا عالميا سابقا للصلافة وانعدام الاخلاق وموت الضمير هو الولايات المتحدة.
هكذا يلعب البلدان في مصائر الشعوب من أجل مصالحهما حتى لو اتحدت شعوب العالم في مواجهتهما. كم مرة وقف العالم حيال القضية الفلسطينية في جهة وامريكا في جهة أخرى؟ مئات المرات! لنتذكر أن آخرها كان التصويت على الدولة الفلسطينية في الجمعية العمومية. وها هي روسيا، في أقل من عامين، تقف في مواجهة معظم دول العالم في خصوص المأساة السورية التي تأخذ على عاتقها استمرارها بكلفة بشرية غير مسبوقة.
أفهم العلاقة التي ربطت، تاريخيا، الاتحاد السوفييتي بالنظام في سورية في ظل الحرب الباردة و'صراع الجبارَين'، كما أفهم أن تستمر هذه العلاقة في اطار ما تبقى لموسكو من 'مصالح' في المنطقة من جهة، ولعب 'النظام' السوري على التناقضات بين 'الشرق' و'الغرب' من جهة أخرى.
ولكن غير المفهوم، تماما، هو أن لا تصدر ادانة واحدة، مهما كانت خجولة، من موسكو لاستخدام النظام السوري 'المفرط' للسلاح الروسي في مواجهة المدنيين، أو ضد المسلحين، في مناطق مأهولة بالسكان.
كل هذا القتل المشاع بالسلاح الروسي لا يحرِّك ساكنا في 'ضمير' ساسة موسكو، ولا يهزُّ شعرة في رؤوس ورثة الاستبداد الستاليني في انحطاطه الرأسمالي.
حتى الولايات المتحدة الامريكية، الأب والأم الشرعيان للاحتلال الاسرائيلي، تجد نفسها، أحيانا، في حالة إدانة مُغَمْغمة لسلوك اسرائيلي ما. ولكن لا شيء من هذا يصدر من موسكو. لا غمغمة ولا لعثمة. حتى عندما يخطئ 'بغدانوف' سرعان ما يعيده الشبّيح 'لافروف' الى 'جادة الصواب'. وجادة الصواب بالنسبة لموسكو، مربط الفرس وبيت القصيد في سياستها السورية تكمن في الامساك بهذه السانحة التاريخية التي أعادتها من 'الغيبة الكبرى' إلى مشهد السياسة الدولية ثانية.
لا سياسة لروسيا سوى السياسة السورية.
لقد جاءتها المأساة السورية (بفضل جرائم بشار الأسد) من غامض علم الله، كما يقولون في بلادنا، فاستماتت في الامساك بها.
هذه هي المصلحة الروسية.
لا مبيعات السلاح الى سورية.
ولا القاعدة العسكرية في طرطوس.
ولا شيء قريب من هذين يفسر الاستماتة الروسية في دعم بشار واعتباره جزءا من أيِّ حل سياسي حتى لو أدى ذلك الى تحويل سورية الى ركام.. وهو ما يحصل تدريجيا.
تريد موسكو أن يتم التكلم معها.
أن تعود قوة عالمية يحسب لها حساب.
أن تتقاطر اليها الوفود.
أن تشخص اليها الأفئدة والأبصار.
وصادف أن هذا لا يزعج واشنطن البتة. صادف، لسوء حظ السوريين، أن لا مصلحة أمريكية حقيقية في ثورة السوريين ضد بشار الأسد، بل ثمة ريبة عميقة لن يبددها 'الائتلاف السوري' المعارض مهما فعل. فثمة بعدٌ اسرائيلي عضوي لأي سياسة أمريكية (سابقا ولاحقا وفي كل وقت) عندما يتعلق الأمر بسورية. فنحن نتحدث هنا عن جغرافيا سياسية حاسمة في مصير الدولة العبرية.
سورية ليست ليبيا البعيدة آلاف الأميال عن اسرائيل، ولا هي مصر التي تقيم سلاما مع اسرائيل ويفصل بينها وبين التجمعات الاسرائيلية الكبرى مفازة شاسعة اسمها صحراء سيناء. سورية أقرب الى اسرائيل من حبل الوريد. لسورية (للذكرى فقط!) أرض محتلة هي الجولان وهذه قضية معلقة تركها النظام الممانع والمقاوم كما هي منذ آخر هدنة بين جيشه وجيش الاحتلال الاسرائيلي في عام 1974. أي خطوة امريكية تجاه سورية تمرُّ، فعلا أو مجازا، بتل أبيب.
هكذا تُرِكَت سورية لروسيا.
فلا أحد في الغرب له مصلحة في سورية الا من الباب الاسرائيلي، وهذا باب يمكن أغلاقه كما يخطط نتيناهو، ثم ليقتتل السوريون الى أن تنهك قواهم. ساعتها، يمكن تُدبُّر 'طائف' سوري، ولكن الى ذلك الحين فلتنعم روسيا، الاسم الحركي لآلام السوريين، بلحظتها العالمية التي لا ينازعها عليها أحد.
التعليقات