مالك التريكي


غضب في إسرائيل من أوباما. غضب مزمجر. ولكنه غضب يتسم بخفة الروح، بل بتنافس الغاضبين في هذه الخفة. حتى أن أحد مسؤولي الليكود مضى في لعبة التنافس إلى حد استخدام أثقل ما تجمع لديه من أسلحة سياسية: سلاح النكتة المضحكة إلى حد الفتك. ماذا قال المسؤول الليكودي؟ قال إني أتهم... إني أتهم أوباما بـ'التدخل السافر' في الانتخابات الإسرائيلية!
هكذا. تدخل. وسافر أيضا. فلتتخيل الصورة: رئيس دولة الأمريكان الأباعد الأغراب الأغيار يدس أنفه في أقدس أقداس دولة قصية أبية غنية (عن المساعدات) ليس بينها وبين دولته أي نظرة فابتسامة... بل ليس بينهما أي سابق صلة أو معرفة. فما الذي قاله أوباما حتى ينحدر هذا المنحدر فيجد نفسه حبيس قفص الاتهام الليكودي؟ ما الذي قاله حتى يرمى برذيلة التدخل في شؤون دولة ذات سيادة - دولة ليس من قيمها التدخل في شؤون الآخرين؟ ما الذي قاله حتى يوصم بوصمة محاولة التأثير في انتخابات دولة ليس من شيمها محاولة التأثير في أي انتخابات خارجية...
قال الرئيس الأمريكي، عندما بلغه نبأ اعتزام حكومة نتنياهو بناء مستوطنة جديدة في الضفة الغربية إضافة إلى ثلاثة آلاف وحدة استيطانية في القدس الشرقية، إنه صار متعودا على خذلان إسرائيل نفسها بنفسها بانتهاج هذه السياسات. أما في الأسابيع التي أعقبت تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقبول عضوية فلسطين، فقد قال أوباما في مناسبات متكررة 'إن إسرائيل لا تدرك ما هي مصلحتها الحقيقية'. وما يعنيه هو أن نتنياهو لا يفعل، مع كل إعلان عن مستوطنة جديدة، سوى الإمعان في الدفع ببلاده على الطريق المؤدية إلى النبذ الدولي. وإذا أصبحت إسرائيل دولة منبوذة، فاقدة حتى للتعاطف الأمريكي، فإنها لن تكون قادرة على البقاء. صحيح، في رأي أوباما، أن إيران تمثل في المدى القريب خطرا على وجود إسرائيل، ولكن سياسات إسرائيل نفسها تمثل خطرا أدهى في المدى البعيد.
ولأن هذا كلام مفزع فتاك، فإن الرئيس الأمريكي لم يناد به من أعلى السطوح، بل إنه قاله في مجالسه الخاصة. ولعلنا ما كنا لنسمع به أبدا لولا تمكن الصحافي جفري غلودبرغ من استقائه من مصادره في البيت الأبيض. وقد نجح غولدبرغ بذلك في تحريك راكد المياه، حيث قال إن أوباما لم يعد يكترث حتى لإظهار الغضب من نتنياهو. إلا أن وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية قد تناقلت أقوال أوباما من منطلق أن عنصر المفاجأة - أو مصدر القيمة الخبرية - فيها هو أنها تضمنت انتقادات من رئيس أمريكا لرئيس حكومة إسرائيل.


ولكن الواقع أن هذا ليس مفاجئا أو جديدا بالمرة. فالجميع يعلم أن الود بين أوباما ونتنياهو مفقود. كما أن أوباما ليس أول رئيس أمريكي يمتعض من نتنياهو. فقد سبق لبيل كلنتون أن تفوه في شأنه بكلام لا يخلو من بذاءة وقال لمساعديه متهكما: إن هذا الرجل يظن أنه يسدي لنا معروفا! كما أن كثيرا من الأصوات الصهيونية والليبرالية في أمريكا وإسرائيل تعلن منذ مدة الموقف ذاته الذي عبر عنه أوباما. وقد كان الروائي عاموس عوز أحد آخر من عبروا عن هذا الموقف قبل أيام عندما قال إن منع قيام دولة فلسطينية لن يؤدي إلى دولة ثنائية القومية بل إلى دولة عربية.
اللافت حقا في مقال غولدبرغ ليس انتقاد أوباما لنتنياهو، بل التأكيد بأن 'امتعاض أوباما' لا تكاد تكون له أية عواقب في المدى القريب. إذ إن 'الولايات المتحدة لن تقطع مساعداتها لإسرائيل، كما أن مساعي أوباما لعرقلة الطموحات النووية الإيرانية ستستمر بصرف النظر عن مدى ضيقه وبرمه من نتنياهو'. لا جديد إذن تحت شمس واشنطن ولا اختلاف بين سياسة أوباما وسياسات أسلافه: إسرائيل دوما على حق حتى عندما تكون على خطأ. بل إن إسرائيل تبقى، رسميا، على حق كلما كانت، عالميا، على خطأ.
على أن موقف أوباما يتميز بحكمة لم يؤتها الأسلاف. حكمة من لا يخطىء قراءة العلامات. ولكنها حكمة العاجز المتصالح مع عجزه. حكمة العين السياسية بصيرة، واليد الرئاسية قصيرة. حكمة الليبراليين والصهاينة المتخوفين على إسرائيل من إسرائيل إذ هي تفعل بنفسها ما يفعل العدو بعدوه. ذلك هو رئيس أمريكا: مجرد حكيم من حكماء الغرب المتدبرين للآيات المشفقين الجزعين على إسرائيلهم وهم يرونها تشوه وجهها 'الديمقراطي' بيدها وتهجو العالم كله بينما تغذّ السير على طريق الانتحار التاريخي.