أحمد التل

هناك إجماع بين مؤرخي الفكر الغربي على أن الظاهرة المحورية التي كانت أساس تقدم المجتمعات الصناعية الغربية هي الحداثة. وهناك خلط شائع في الخطاب العربي المعاصر بين الحداثة Modernity والتحديث Modernization.
التحديث هو عملية اجتماعية من شأنها نقل المجتمع التقليدي كالمجتمع الزراعي إلى مجتمع حديث كالمجتمع الصناعي، وذلك باستخدام الآليات والتقنيات التي طبقتها المجتمعات الأوروبية في انتقالها من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة.
أما الحداثة فهي مشروع حضاري متكامل متعدد الأبعاد. ذلك أنه ليست هناك حداثة واحدة بل quot;حداثات متعددةquot;! وقد وُفِّق الفيلسوف المغربي الشاب الدكتور محمد الشيخ في كتابه quot;رهانات الحداثةquot; laquo;بيروت، دار الهادي، 2007raquo; الذي لعله أهم كتاب صدر عن الحداثة في التمييز بين laquo;الحداثة الاقتصاديةraquo;، وأبرز مفكريها هم آدم سميث ودافيد ريكاردو وجون باتست سي وتوماس مالتوس، وlaquo;الحداثة الاجتماعيةraquo; وأبرز ممثليها سان سيمون وأوجست كونت وإميل دور كايم وجورج زيميل، وlaquo;الحداثة السياسيةraquo; وأبرز ممثليها ماكيافيلي وتوماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو وأليكس توكفيل، وlaquo;الحداثة العلميةraquo; وممثلوها علماء بارزون مثل كوبرنيكوس، وجاليليو جاليلي، ويوهان كبلر وإسحاق نيوتن، وأخيراً laquo;الحداثة الفنيةraquo; وممثلوها الشاعر الشهير شارل بودلير وستيفان مالارميه ورامبو ومارسيل بروست.
وبذلك يمكن القول إن ثمة حداثات متعددة. غير أنها تقوم جميعاً على ثلاثة مفاهيم رئيسة، هي العقلانية، والفردية، والحرية.
ويلفت laquo;محمد الشيخraquo; نظرنا إلى ملاحظة مهمة هي العلاقة الوثيقة بين هذه المفاهيم الثلاثة، بحيث إنه لا يمكن النظر إلى كل مفهوم على استقلال. وهو يقول في عبارة جامعة إنه laquo;لا حرية بلا ذات مستقلة وبلا تعقل، كما أن الشأن في مبدأ العقلانية أن لا إعمال للعقل بلا ارتباط بذات الإنسان العاقل وانشداد إلى الحرية وما كانت الذاتية حمقاء خرقاء، وإنما الذاتية ما شهد لها العقل وأيدتها الحريةraquo;.
تبدو أهمية هذه العبارة في كونها تفند دعاوى أنصار التعصب الديني من الكتاب والفنانين والمثقفين ورجال الدين الغربيين، الذين يشنون على الإسلام والمسلمين حرباً شعواء باسم ممارسة حرية التعبير!
ومما لا شك فيه أنه من أهم منجزات الحداثة الغربية هو مبدأ الحرية، الذي يتضمن حرية التفكير بعد عهود طويلة عانت فيها الإنسانية القهر السياسي والديني الذي وضع قيوداً عديدة على هذه الحرية، وكذلك حرية التعبير التي ضمنتها دساتير الدول الحديثة، التي أزالت عقبات الرقابة على نشر الأفكار وترويجها والدعوة إليها.
ونحن نعرف من قراءتنا لتاريخ المجتمعات الغربية أن هذه الحريات، ونعني حرية التفكير وحرية التعبير، صودرت عديداً من المرات في عصور الاستبداد الحديث الذي ساد المجتمعات الغربية، وأبرزها على الإطلاق صعود النازية والفاشية والشيوعية، ومصادرة هذه الأيديولوجيات السياسية المتطرفة لكل ضروب الحرية!
بل إنه في مجتمع ديمقراطي كالمجتمع الأمريكي أُصيبت الحرية في مقتل في عصر السيناتور laquo;ماكارثيraquo; الذي قاد حملة ضارية لتصفية المثقفين والفنانين اليساريين، وقد أُطلق على هذا الاتجاه الفاشي quot;المكارثيةquot; واعتُبرت حقبة استثنائية في التاريخ الأمريكي أنتجها الخوف المرضي من انتشار الشيوعية وغزوها لقلاع العالم الرأسمالية!
غير أنه بعد نهاية هذه العصور الاستبدادية الحديثة وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، أصبح مبدأ الحرية مبدأ مقدساً في كل الديمقراطيات المعاصرة. وهكذا أُعيد الاعتبار لمبادئ حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم.
غير أنه يبقى السؤال الأساسي هل حرية التعبير التي يقدمها الغرب ويعتبرها أحد أسس التقدم بل أحد معايير الحكم على تخلف أو تقدم المجتمعات النامية على وجه الخصوص، تطبق بصورة منهجية وفي كل الحالات من دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو الثقافة أو أن هناك ازدواجية في المعايير؟
لو استعرضنا ممارسة حرية التعبير في المجتمعات الغربية وخصوصاً في فرنسا بلد الحريات، وفي ألمانيا التي تحررت من عبء التراث النازي، لوجدنا أن اللوبي الصهيوني في كل من البلدين قد صادر مبدأ حرية التعبير! لأن هذا اللوبي الصهيوني استطاع أن يجعل الحكومة الفرنسية تصدر تشريعاً يعاقب جنائياً كل من يشكك في الهولوكست laquo;المحرقة اليهوديةraquo; أو يقلل من عدد ضحاياها! وهكذا حوكم باحث فرنسي قدم رسالة دكتوراة حول الموضوع، لأنه فند بعض الأساطير التي حاكها اليهود عن المحرقة، وصدر بحقه حكم جنائي مما يناقض مبدأين أساسيين من مبادئ الحداثة الغربية، وهما حرية التعبير والحرية الأكاديمية! والقيود نفسها على حرية التفكير فيما يتعلق بالتاريخ اليهودي فُرضت في ألمانيا وفي عديد من البلاد الأوروبية الأخرى. فأين هو احترام حرية التفكير وحرية التعبير التي تتشدق بها البلاد الغربية وترفعها سيفاً في مواجهة الدول النامية الشمولية والسلطوية!
والسؤال الثاني هل حرية التعبير مطلقة، بحيث يجوز لصاحب الخطاب أياً كان فكرياً أو أدبياً أو فنياً أن يتناول بالتجريح والسخرية المقدسات الدينية للشعوب غير الأوروبية التي لا تدين بالمسيحية؟ هكذا زعمت الحكومة الدنمركية حين رفضت ndash; باسم حرية التعبير ndash; مساءلة الرسام الدانمركي الذي نشر رسوماً مسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام! وقد أيدت هذا الاتجاه عديد من الدول الأوروبية التي ndash; جهلاً وعناداً وغروراً ndash; أعادت نشر هذه الرسوم المسيئة للإسلام والمسلمين.
غير أن التعصب الديني الأعمى والعداء للإسلام أدى بالسيدة quot;ميركلquot; مستشارة ألمانيا، إلى أن تقيم حفلاً في برلين لتكرم الرسام الدانمركي تحية له باعتباره من أبطال حرية التعبير!
ما هذا النفاق الغربي المفضوح، وما هذه الجريمة العنصرية التي ارتكبت باسم الشعب الألماني، وهذا الشعب بريء من سياسييه الذين خضعوا بصورة مُهينة للابتزاز الصهيوني؟
وإذا أضفنا إلى ذلك حادثة هذا القس الأمريكي الأحمق الذي دعا ليوم يتم فيه حرق القرآن، وما أدى إليه هذا الإعلان من ثورة عارمة وغضب شديد في البلاد الإسلامية، بل في عديد من الدوائر الغربية المستنيرة، لأدركنا أن دعاوى حرية التعبير التي هي في ذاتها من منجزات الحداثة الغربية، يمكن أن يؤدي سوء التذرع بها إلى فتنة دينية على مستوى العالم، بل إلى ارتكاب جرائم إرهابية ضد الرموز الغربية انتصاراً للدين الإسلامي، ودفاعاً عن القرآن الذي يؤمن به ملايين المسلمين في كل أنحاء العالم.


ونخلص إلى التساؤل في أي عصر نعيش؟
هل نعيش حقاً في عصر حوار الثقافات، والتسامح الذي ينبغي أن يسود بين البشر، وضعاً في الاعتبار أهمية احترام التنوع البشري الخلاق، ومبدأ أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، ولا دين أفضل من دين، أم أننا على مشارف حرب دينية معلنة لا تزيدها وسائل الإعلام الحديث إلا اشتعالاً؟
وأين ذهبت دعوات حوار الحضارات والتحالف بين الحضارات؟ هل ضاعت في خضمِّ التعصب الديني لجماعات دينية يهودية ومسيحية وإسلامية تنتشر الآن في كل مكان، أم أن النفاق الغربي حول حرية التفكير آن له أن ينتهي بعد أن تكشَّف الوجه القبيح للحداثة الغربية التي أصبحت مثقلة بأمراضها؟