زياد الدريس

أكتب هذه المقالة إذ عدت من مدينة النور / الرباني (المدينة المنورة)، بعد أن اغتسلت في عبق المدينة المقدسة وتنعّمت بلطف ورقّة أهلها الطيبين.

الله... ما أرفع المَقام وأمتع المُقام.

بعد أن انتهت احتفالية تدشين (المدينة المنورة ... عاصمة للثقافة الإسلامية لعام ٢٠١٣)، سألني مراسل إذاعة مونت كارلو: ما أكثر شيء أثار اهتمامك في البرنامج المعدّ لعاصمة الثقافة الإسلامية لهذا العام؟

أجبته فوراً: أكثر شيء أثار اهتمامي هو لماذا لم تصبح المدينة المنورة، التي هي العاصمة الإسلامية الأولى، عاصمة للثقافة الإسلامية إلا هذا العام؟!

لم يكن هذا تساؤلي وحدي، كثيرون غيري ركزوا هذا التساؤل أمام خيمة الاحتفال... تصريحاً أو تلميحاً. كان تساؤلي عن تأخّر تعصيم laquo;طيبةraquo; استفهامياً في بدايته، ثم تحوّل إلى سؤال استنكاري بعد أن استفهمت من مدير عام منظمة laquo;الإيسيسكوraquo; الصديق د. عبدالعزيز التويجري فأفادني بألم عن الملابسات البيروقراطية لهذا التأخير!

الآن يجب أن ننسى التأخير في تسمية العاصمة ونلتفت إلى التبكير في تفعيل المناسبة بما يليق بهذه المدينة المقدسة التي فتحت ذراعيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم واحتضنته منذ مهاجره إليها وحتى اليوم، إذ تحتضن جسده الطاهر. وإن أهم فعالية يمكن الخروج بها من هذه السنة العاصمية، ليست ندوة أو معرضاً أو كتاباً على رغم أهمية ذلك، بل هي البدء فعلياً، ومع أميرها الجديد، في استعادة laquo;هويّةraquo; المدينة التي استحقت أن تكون laquo;منوّرةraquo; من بين سائر مدن الكون.

مرّت المدينة المنورة في سنوات مضت بفترة عصيبة طاولت بالهدم والطمس كثيراً من رموزها ودلالاتها، إما اعتماداً على تفسيرات دينية احترازية... تطرّفت في مواجهة التطرف وغلَت في مواجهة الغلوّ. أو لأسباب توسعية بنائية طاولت الهوية والرمزية التي ظلت تحتضنها مدينة الرسول الكريم طوال قرون، رموز لم تمسسها يد الورع من لدن علماء السلف من قبل، ولا جرّافات التعمير. (للتوسع حول المواقع الآثارية المطموسة أو المهددة بالطمس، راجع ورقة المهندس المعماري د. عبدالله الحصين: المدينة المنورة بين المهرجان والعمران).

الآن، سأقول من دون مجاملة، إن الرعاية السعودية الرفيعة المستوى لاحتفالية العاصمة الإسلامية هي رسالة تطمينية لمحبي المدينة المنورة الذين كانوا يتابعون بقلق تحوّل مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى مدينة اعتيادية كسائر المدن الأخرى، تكتظ بالعمائر العولمية ومطاعم laquo;ماكraquo;، من دون مراعاة لخصوصية المدينة النبوية وهيبتها ووقارها.

ما الذي يبتغيه الموقِّرون لهذه المدينة المقدسة... أن تبقى بمنأى عن أسباب التطور الحتمي للعالم؟!

لا ليس هذا مطلبهم، بل هم يأملون فقط أن تتطور مدينة النور laquo;الربانيraquo; لكن من دون أن تفقد هويتها... وأن تتحدّث لكن من دون أن تفقد هيبتها... وأن تنفتح لكن من دون أن تُغلق رموزها وآثارها.

يجب أن نتمعّن في أن الخصوصية التي حدّت من دخول غير المسلمين إلى المدينة المنورة تنطوي على دلالة رمزية يمكن أن تحدّ بالمثل من انتشار مطاعم laquo;ماكدونالدزraquo; وأشباهها في أحياء المدينة الوقورة. هذا ليس بتحريم للمطاعم الأجنبية، كما قد يسطّحها البعض، بل هو تنزيه لهويّة المدينة المقدسة. وقد رأيت في أوروبا laquo;الرأسماليةraquo; كيف أن بلداتٍ وأحياء عريقة يُقنّن فيها فتح المحلات والمطاعم بما لا يخدش شخصية البلدة أو الحي. أفيُستكثر على طيبة الطيبة أن نعيد نمطية التفكير في عمارتها على هذا الأساس الأخلاقي؟!

تَطاوُُلُ ذراع الرأسمالية على الثقافة أمر بشع، لكن الأبشع أن تتطاول يد الرأسمالية على المقدّس.

لا ينكر الجهود الفذة التي تبذلها بلادي لخدمة الحرمين الشريفين وعمارتهما إلا جاحد، لكن الخطر يأتي من المنفّذين الذين قد يغلب عندهم الحس الدنيوي على الحس الديني.

لحسن الحظ أن الوقت ما زال متاحاً لآلية تفكير وتعمير جديدة تعيد لمدينة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم هويّتها، ولتبقى المدينة laquo;منوّرةraquo; دوماً بعبق ذكرى من أنارها.