بيروت

laquo;انطلق من ضرورة إخراج لبنان من حالة الانقسام والتشرذم السياسي، وما انعكس منه على الصعيد الأمني، ودرء المخاطر المترتبة عن الأوضاع المأساوية المجاورة والأجواء الإقليمية المتوترة ومنع الانزلاق باتجاههاraquo;. تلك هي المهام العاجلة لتمام سلام، كما أعلنها أول من أمس السبت، بعد تكليفه بتشكيل حكومة جديدة في لبنان، من قبل الرئيس سليمان، بناءً على ما أجراه من استشارات نيابية ملزمة. وكان واضحاً منذ عدة أيام أن laquo;سلامraquo; سيكون رئيس الحكومة المكلف، بعد أن تم طرح اسمه من قبل قوى 14 آذار، باقتراح من جنبلاط، وإثر الترحيب الذي أبداه برّي، وموافقة laquo;حزب اللهraquo;، والدعم الذي أعطاه إياه رئيس الحكومة المستقيل ميقاتي.

وقد تأتى هذا الإجماع حول laquo;سلّامraquo; بفضل عاملين رئيسيين: أولهما شخصيته التوافقية المعتدلة؛ إذ عرف بمواقفه الداعية إلى تغليب منطق الحوار ولغة العقل خلال مراحل الصراع في لبنان منذ اندلاع ثورة الأرز عام 2005 وإلى الآن. فرغم انتمائه إلى قوى 14 آذار (المعارضة)، فإن خطابه ظل هادئاً، رغم الانتقادات القوية التي وجهها عقب اجتياح laquo;حزب اللهraquo; لأجزاء من بيروت في مايو عام 2008، مما أدى إلى معارك شوارع أسفرت عن سقوط أزيد من مئة قتيل. ورغم تأكيده أن laquo;الطائفة السنية تشعر بالاستهدافraquo;، فإنه لم يدخل في الجدل اللبناني العنيف أحياناً حول سلاح laquo;حزب اللهraquo;. ورغم دفاعه بقوة عن سيادة لبنان تجاه التوغلات العسكرية السورية منذ بدء الأزمة الحالية في سوريا، ومواقفه المبدئية من الحريات والديموقراطية، فإنه لم يهاجم النظام السوري. وبهذا الأسلوب يسير تمام سلام على نهج والده صائب سلام الذي أطلق خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية شعاري laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo;، وlaquo;لبنان واحد لا لبنانانraquo;، كما مدّ يده للمسيحيين بعد اغتيال بشير الجميل، مما ساعد على انتخاب شقيقه أمين الجميل رئيساً للجمهورية.


أما العامل الثاني وراء التوافق حول laquo;سلامraquo;، فهو انتماؤه لبيت عريق من البيوتات البيروتية. فوالده صائب سليم سلام، سياسي ورجل أعمال لبناني يعد من أهم رجال الدولة في سنوات ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية من عام (1975-1990)، وقد شغل منصب رئيس الحكومة عدة مرات بين عامي 1952 و1973، وأسس في عام 1945 شركة laquo;طيران الشرق الأوسطraquo;، وترأس منذ عام 1957 laquo;جمعية المقاصد الخيرية الإسلاميةraquo;. في كنف هذا الأب ولد تمام سلام عام 1945، من أم سورية الأصل، فتلقّى دروسه الابتدائية في مدرسة الليسيه الفرنسية ببيروت، وتابع دروسه التكميلية في مدارس laquo;جمعية المقاصد الخيرية الإسلاميةraquo;، والثانوية في مدرسة laquo;هاي سكولraquo; ببيروت، أما دراسته الجامعية فتلقاها في إنجلترا حيث حصل على شهادة في الاقتصاد وإدارة الأعمال، ثم عمل مؤقتاً في الحقل التجاري، قبل انتخابه في عام 1982 على رأس laquo;المقاصد الخيرية الإسلاميةraquo;، خلفاً لوالده، ثم أصبح وريثه السياسي لاحقاً.

ويعلم العارفون بحقائق الوجود اللبناني أهميةَ العمق العائلي للسياسة ورجال الحكم، فهو الرافعة لتبؤ المواقع الرئاسية. وقد كان صائب سلام في عهده على مستوى من النفوذ السياسي والاقتصادي يماثل ما وصل إليه رفيق الحريري لاحقاً. وباعتبار انتمائهما لعائلتين سنيتين لهما نفوذهما الواسع في لبنان، فإن علاقة تمام سلام برفيق الحريري ثم بالوريث السياسي للأخير (نجله سعد الحريري)، ما فتئت تراوح بين التنافس والتحالف. ففي أول انتخابات لبنانية بعد انتهاء الحرب الأهلية، وقد أجريت عام 1992، وجاءت بالحريري رئيساً للحكومة، قرر laquo;سلامraquo; مقاطعة الانتخابات، تضامناً مع المسيحيين الذين اعتبروا أن نتائجها مقررة سلفاً من قبل سوريا. لكنه نافس الحريري في انتخابات عام 1996، حيث ترشح مستقلا وفاز كنائب عن بيروت. ثم تحالف معه في الانتخابات المحلية ببيروت عام 1998 وفازا معاً، لكن تحالفهما سرعان ما تفسخ ليتواجها في الانتخابات التشريعية لعام 2000، حين خسر laquo;سلامraquo; مقعده البرلماني. بيد أنه قاطع انتخابات عام 2005، والتي كان واضحاً منذ البداية أن نتائجها ستأتي لصالح معارضي سوريا. بيد أن الموقف بين سلام وسعد الحريري اتصف بالتقارب ثم التحالف مجدداً، لاسيما عقب حادثة مقتل النائب وليد عيدو في عام 2007، والتي وجهت أصابع الاتهام فيها لسوريا وحلفائها بلبنان، لذلك قرر laquo;سلامraquo; التحالف مع laquo;تيار المستقبلraquo; بقيادة الحريري في انتخابات عام 2009، فاستطاع استعادة مقعده النيابي.

وإلى ذينك العاملين، يضاف عامل آخر ساعد على تسهيل التوافق حول سلام، ألا وهو laquo;نظافة يديهraquo;، كما يقول كثير من المراقبين والفاعلين السياسيين اللبنانيين. فخلال فترته وزيراً للثقافة في حكومة السنيورة، بين يوليو عام 2008 ونوفمبر عام 2009، أظهر نزاهة في تسيير المال العام حافظت له على نصاعة سجله. ثم إنه يحظى بدعم الهيئات الشعبية والمؤسسات الخيرية، وعلى رأسها laquo;جمعية المقاصد الخيرية الإسلاميةraquo;، وكذلك laquo;كشافة المقاصد الإسلاميةraquo;، وlaquo;الدفاع المدني المقاصديraquo;، وهي هيئات يرأسها شخصياً، وكان مؤسساً للأخيرتين منها.

ولا يخفى البعد الإقليمي في تسمية سلام لرئاسة الحكومة اللبنانية، خاصة أن لبنان يعد ساحة لصراع النفوذ بين بعض الدول الإقليمية والأجنبية الكبرى، وأن التسمية جاءت لتنهي عامين من العمل الحكومي هيمن فيهما laquo;حزب اللهraquo; وحلفاؤه. وكما حدث توافق محلي لبناني على تلك التسمية، فربما كانت أيضاً موضع توافق إقليمي وعالمي.

لكن الإجماع على التكليف لا يعني أن كل المشكلات سوف تحل بذات السهولة في عملية التأليف؛ فالخلاف محتدم الآن حول طبيعة الحكومة القادمة: هل تكون حزبية من قوى الأغلبية فقط، كما يرى laquo;تيار المستقبلraquo;؟ أم حكومة laquo;وحدة وطنيةraquo; تعكس صيغة laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo;، كما يطالب جنبلاط ويعلن laquo;حزب اللهraquo;؟ أم حكومة حيادية مهمتها الأساسية إجراء الانتخابات النيابية، وفقاً لرؤية أطراف أخرى؟

وكما يمثل التصدي لتداعيات الأزمة السورية على لبنان، بتركيبته السياسية والطائفية الهشة، مهمةً أساسيةً للحكومة المنتظرة، فإن مهمتها الأساسية الأخرى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد (يوليو القادم)، لاسيما أن الخلاف حول قانون الانتخابات كان أحد أسباب استقالة ميقاتي في 23 مارس المنصرم.

وفي ذينك الملفين على الأقل، لا يبدو مؤكداً ما إذا كان شعار laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo; سيكون مفيداً لتذويب الخلافات اللبنانية على يدي النائب البيروتي المعارض سابقاً، وقد أصبح الآن رئيساً للسراي الحكومي في بيروت!

محمد ولد المنى