مطاع صفدي


كلما اقترب العرب من الحياة السياسية أكثر، تعصف بهم الغيبيات من جديد، هذه ليست حكمة فلسفية ولا قانوناً اجتماعياً، لكنها نوع من الطغيان الجبار الأشبه بعدوان الاستعمار، لكنه نابع من ضحاياه قبل أن يكون مستورداً أو مفروضاً من الخارج بفعل lsquo;المؤامرةrsquo;. فلقد تكررت ظاهرة الطغيان الغيبي هذه عبر مفاصل مغْرقة في تاريخ الانحطاط العربي، وهي تعود إلى هذه اليقظة المفجعة منذ عصر النهضة، وتكاد تبلغ أوَجها مع تباشير نهضة جديدة راهنية تحمل عنواناً ربيعياً يكاد يكون غير مسبوق في حقبة هذا الاستقلال الوطني المهدد بكل أضداده ذاتياً وليس خارجياً فحسب.


انتهى الحكم الوطني إلى نظام الاستبداد الشمولي الذي استحوذ على سلطات الدولة العربية الناشئة. لم تعرف مجتمعاتنا الناهضة في ظلّه كيف تتعاطى مع ثقافة الحريات العامة والخاصة، التي لم تتعلم منها إلا شعاراتها الفوقية الحاكمة. فلم يُتح للسياسة أن تنزل قليلاً من مستوى بعض النُخب الثقافية والعسكرية إلى الطبقات الوسطى، إلا عبْر بعض هوامشها، وأما طبقات السواد الأعظم من مجتمعات الأمة، فقد تُركت جملة وتفصيلاً بعيداً عن كل حراك عام تلقائي، ظلَّت مجرد مواد إنسانوية خاضعة ومطواعة للانصباب في القوالب الجاهزة الهابطة عليها من فوق هاماتها.
كان تغييب الكتل الجماهيرية الكبيرة، وإخفاؤها وراء حدود كل مجال عام، المحرّكَ المركزي لمختلف صِيَغ الطغيان التي أفرزها الانحطاط المتجدد المرافق لمتغيرات السلطة الفوقية؛ بالمقابل لم تصعد إلى أعلى هامات الدول إلا الفئويات الأقل عدداً، بل حكمت العالم العربي طيلة أكثر من نصف قرن زُمَر من أفراد معدودين، وفي أحيان كثيرة كان الفرد الواحد هو الحاكم المطلق.
ما يمكن استخلاصُه، أن التاريخ المعاصر للمنطقة قد مرت أحداثه من خلف ظهور مجتمعاتها أو من فوق رؤوسهم بالأحرى، دون أن يكون لهؤلاء الناس أية مشاركة حقيقية في صنعها أو في دفعها، وإنْ كان عليهم أن يتحملوا أثمانها، إذ كانت في معظمها أحداثاً كارثية، وقلما جاء بعضها ببعض الخير العام أو ما يشبهه.


إنها غربة شاذة ورهيبة، ولكنها واقعية ومستديمة، تلك الحالة من الانفصام التي تجعل أمة كاملة غائبة تماماً عن وقائعها المصيرية. فهل كانت شعوب (الأمة) عقيمة من العقل والإرادة إلى هذه الدرجة من شبه العدمية المطلقة، فليست الأنظمة الطغيانية الحاكمة هي القادرة كلياً على شل مجتمع قائم حي بتمامه. هنالك عِلَلٌ أخرى لا بدَّ من الكشف عنها، ولا تختصرها الأوصاف التقليدية من مثل مفهوم التخلّف أو الانحطاط أو الظروف الاقتصادية والثقافية وسواها..
فكل هذه العوامل واردة، قد تكون مجرد تعلاّت لفظوية أو علموية، لكن يتبقَّى السؤال المركزي بدون إجابة قابلة للبَرْهَنَة العقلانية الحاسمة؛ ليست المسألة أنَّ العرب لم يعرفوا الديمقراطية في تاريخهم المعاصر، ليست المشكلة أن ما من مجتمع عربي عُرِفَ عنه أنه أصدر قراراً سياسياً بملء إرادته ووعيه، إنما هي الحقيقة البسيطة التي ينبغي الاعتراف بها والقول مباشرة أن العرب ليسوا هم في حال ما قبل الدولة، بل ما قبل الوعي بضرورة أن تكون لهم دولة.
مسألة الوعي هذه ليست تحصيلاً ثقافياً أو معرفياً خالصاً، وإن كان للتربية نصيب أكبر في إنتاج هذا الوعي أو في إبطاله أو إفشاله. هنالك نوع من الإعاقة الغامضة المانعة لفعالية الإرادة العامة، قد تُولد مع كل مشروع ذي صفة عمومية، تصاحبه ـ الإعاقة هذه ـ كأنها توأم سحري يحيا معه، يلازمه، لكنه يضاده في تفاصيله وتطوراته.


من هنا لا يمكن أن توصف هذه الإعاقة بكل النعوت الخارجية المعتادة، ليست طارئة أو أجنبية أو غازية، تكاد تكون متأصلة في الجذر المجتمعي نفسه الذي يبدع المشروع العمومي أو يُوحي به أو ينظّمه.
عندما يفقد المجتمع الشعور بضرورة الدولة، لا يعني هذا ضعفاً في التكوين الحضاري بصورة حتمية، وقد يرجع الأمر كما في الحالة العربية إلى الطريقة التي يفهم الناس من خلالها علاقتهم مع السلطة، فهي علاقة من طرف واحد، مفروضة على الجماعة وأفرادها من فوق تكوينها الطبيعي. فالدول غير القَبَلية التي أنشأها الاستعمار الأوربي منذ بداية القرن الماضي، لا تزال تمثل بالنسبة لغالبية الرأي العام، جسماً غريباً، وملتصقاً بالهامة العليا من هرم المجتمع. هذه الدولة الجمهورية، من النمط الاقليمي الراهن، هي عملياً بدون جمهور. إنها كيان مغلق على أمكنته وأصحابه.. وأهله. فليس لهذه الدولة ثمة حضور إلا عبر خطاباتها الإعلامية، ووجودها الفضائي بالصوت والصورة، لكنها في الوقت عينه تمارس رقابة شمولية على أدق تفاصيل الحياة اليومية لرَعيَتها.
تجعل الدولة العربية من سلطتها مرادفةً لسلطة التديّن التقليدي، وقد تأخذ مكانه ودوره. المهم هو الاحتياز على مقاليد القوة من طرف واحد دائماً، ولذلك عندما يستولي حزب ديني على الحكم لن يصطدم بدولة مختلفة عن طبيعته. سرعان ما تستجيب أجهزة (هذه) الدولة لحكّامها الجدد، وكذلك يفعل المجتمع التقليدي المتآلف مع آليات التبعية التلقائية. فيقوم بتسليم كتلته الجماهيرية الكبرى للسادة القادمين والصاعدين من بين صفوف المعارضين للأباطرة السابقين.
هكذا يمكن القول أن الغيبيات ليست وقفاً على المنظمات الدينية؛ إنها متجسدة في بنية كل من الدولة ومجتمعها معاً. وما بلوغ بعض هذه المنظمات مستوى إنشاء السلطات الحاكمة، إلا أشبه بإعادة لمّ الشمل ما بين الأدوار السلطوية الجاهزة وأصحابها الأصليين.
كأنما كل حاكم (عربي) مرشَّح أن يغدو سلطاناً أو ديكتاتوراً، حتى لو جاء من بين صفوف الثوار الأحرار، فكيف إنْ كان منشؤه حزباً دينياً أصلاً، كأنما كل أهرام، أي كل مجتمع طبقي، لا بدَّ أن يكون سيده فرعوناً. هذه الواقعة المتكررة ليست من جنس الحقائق العلمية المسلَّم بها، بيْد أنها تصلح مدخلاً لرؤية أخرى أقرب إلى معطيات التجارب الجمعانية الآيلة أكثرها إلى الخيبات البائسة. فالتكوين الأهرامي لنماذج مجتمعاتنا المصنفة في عداد النمو أو التخلّف الصريح، ليس ضحيةَ لأنظمة الاستبداد/الفساد، إن لم يكن الأهرام نفسه أضحى صانعاً لفراعنته. فقد تكون مصر (الإخوانية) اليوم مثالاً صارخاً عن هذا الواقع الانحرافي، لكنه مثال سائر كالعدوى ما بين زُمرة المجتمعات الثائرة.
العقل العربي النخبوي هو الذي يعاني من صدمة الثورة الفاشلة المخطوفة لحساب الغيبيات الحاكمة الصاعدة؛ بعد أن هلَّل لمفاجأة ربيعها غير المنتظر. هذا العقل أصبح مطلوباً منه أن يعيد النظر في أهم منطلقاته، ولعلّه كان عالماً بتلك النتائج قبل تجاربها الشاقة، لكن الأحداث التاريخية لا تقع دائماً وفق برامجها المتصوَّرة مقدماً، بل قد تعارضها وتناقضها أو تختلف عنها إلى حدود متفاوتة، نادراً ما تطابقت معها.
lsquo;الربيع العربيrsquo; لم يكن حاملاً لبرامج أو أجندات، كان حدثاً بركانياً فحسب، وكان المطلوب من سكان الأرض البركانية أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم، فحين تقع الواقعة لا يتبقَّى لأحد أن يقترح خيارات أخرى غير ما هو قائم وحادث ومداهم. هذا هو عنف التجربة الذي لا مهرب منه إلا بعنف آخر، قد يكون أشد هولاً وضراوة، وتتساقط فيه إرادات الشعوب دون أن تدري ما تفعله إلا بعد فوات الأوان، وربما لن تدري به أبداً.
الحصيلة الجزئية أو النسبية التي يمكن للنظرة المحايدة، بل المتفائلة أن تتشبث بها وهي في عين العاصفة، التي تهز تاريخنا المعاصر من جذوره هذه المرة، هذه الحصيلة قد تأتي في صيغة السؤال: هل كل (دورة) نهضوية أو ثورية ستظل محكومة بنكسة اللامعقولية تأتيها من صلْبها أو من هوامشها، أو تتساقط عليها من الفراغ ما فوق هامتها.
لماذا، هذا اللامعقول لا تواجهه مرة واحدة ثورة للعقل باسمه، ولحسابه وحده. إلى متى نناوش هذه الثورة عبر أسماء كل السياسا

ت والإيديولوجيات الأخرى، إلى متى نؤجل توقيتها. إلى متى تُحرم النهضة من عصر تنويرها شبه المستحيل؟