حسين الزاوي

تعيش الجزائر منذ نهاية الشهر الماضي على وقع الأخبار المتعلقة بمرض رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، وقد أصبحت أنباء صحة الرئيس مصدراً للإثارة الإعلامية والتوظيف السياسي منذ الوعكة الكبيرة التي تعرض لها بوتفليقة سنة ،2005 وأضحى يثير، أي اختفاء له عن المشهد العام، موجة من التساؤلات والتشكيك من طرف أوساط متعددة داخل المجتمع الجزائري، الأمر الذي يترك المجال مفتوحاً لانتشار الإشاعة . وقد أسهم كل ذلك في خلق حالة من انعدام الثقة في الأخبار الصادرة عن القنوات السياسية الرسمية للدولة، ونشأت أجواء متوترة وردود أفعال متناقضة، يسعى من خلالها كل طرف إلى الحصول على مكاسب سياسية من خلال العمل على توجيه وعي الفئات الشعبية التي لها قابلية أكثر من غيرها على الوقوع في شراك الإشاعة والأخبار الموجهة سياسياً .

الحقيقة أن مسارعة السلطات الجزائرية، وعلى غير العادة، إلى الإعلان بشكل فوري ومباشر عن مرض الرئيس وسفره المفاجئ إلى فرنسا يوم 27 إبريل/نيسان الماضي من أجل تلقي العلاج بالمستشفى العسكري الباريسي ldquo;فال دوغراسrdquo;، لم يفلح في احتواء الموقف ولم يسهم بالتالي في التخفيف من حدة التوتر الذي هيمن على المزاج العام للكثير من الجزائريين، نتيجة لتزامن هذا المرض مع التحضيرات الحثيثة الجارية حالياً من أجل تنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستشهدها الجزائر بعد أقل من سنة من جهة، ومع تزايد التوترات الإقليمية في منطقة الساحل وعلى الحدود الجزائرية التونسية، وعودة التراشق الإعلامي بين الجزائر والمملكة المغربية، إضافة إلى الوضع الأمني غير المستقر في الجارة ليبيا، من جهة أخرى .

وقد تم التعاطي مع مرض الرئيس انطلاقاً من زوايا متعددة، فقد أبدى قطاع واسع من الشعب الجزائري تعاطفه مع رئيس الجمهورية، وأكد أنه يمثل عملة نادرة بالنسبة إلى رجالات السياسة الكبار في الجزائر، ومن الصعب تعويضه في حالة وفاته أو اختفائه المفاجئ عن الساحة السياسية . أما بالنسبة إلى المعارضة، فقد تأرجحت ردود أفعالها بين المطالبة بشفافية أكبر في ما يتعلق بنشر الأخبار المتعلقة بصحة الرئيس، وبين المطالبة صراحة بتفعيل المادة 88 من الدستور الجزائري الحالي، التي تقضي بإعلان حالة فراغ منصب الرئاسة والدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مسبقة، وقد استهجنت الأحزاب المساندة للرئيس هذا المطلب، وقالت إنه يمثل دعوة إلى الانقلاب على الشرعية، لأن البيانات الرسمية القادمة من فرنسا تؤكد أن بوتفليقة يتماثل للشفاء .

أما في ما يتعلق بالتغطية الإعلامية لهذا الحدث، فقد تراوحت بين الترويج للبيانات الرسمية التي تصدرها الحكومة حول الحالة الصحية لرئيس الجمهورية من قبل وسائل الإعلام الرسمية، وبين التناول الإعلامي للصحف ldquo;المستقلةrdquo; المحسوبة في مجملها على أوساط نافذة في السلطة، معروفة برفضها الشديد لبقاء الرئيس الحالي في السلطة، واستياءها الشديد من رغبته في التحضير لخليفة له، وحرصه على إنهاء مهام الحرس القديم في السلطة الذي يريد أن يشرف بنفسه على مرحلة ما بعد بوتفليقة، لذلك فقد طُلب من بعض رموز هذه الأوساط النافذة، وفي مقدمهم رئيس الحكومة الأسبق بن بيتور، القيام بتحريك المياه الراكدة قبل موعد الاستحقاق الرئاسي المقبل . وعليه فإن هناك أطرافاً ترى أن السبب المباشر في تعرّض الرئيس إلى هذه الوعكة تعود إلى صراعه المرير مع هذه الأوساط التي أثارات شبهاً كثيرة بعضها قد يكون صحيحاً، في الوقت الذي لا يستبعد الكثيرون أن يكون القسم الأكبر منها مفبركاً، بشأن ملفات الفساد، حتى تُرغم الرئيس على الخروج من الباب الضيق، لاسيما أنه فشل خلال السنوات الأولى من حكمه، في تحييد أهم رموز سلطة الظل، خلال الأيام التي سبقت تفجر أحداث منطقة القبائل في مطلع الألفية الجديدة .

ويمكن القول أن جزءاً مهماً وفاعلاً من الطبقة السياسية يسعى إلى استغلال حالة مرض الرئيس من أجل توظيف هذا الظرف الاستثنائي بهدف تحقيق مكاسب سياسية على المدى القريب، لاسيما أن رهان انتقال السلطة في الجزائر بات أكثر أهمية وخطورة أكثر من أي وقت مضى، نظراً لتحوّل الجزائر إلى قوة سياسية واقتصادية كبيرة في جنوب المتوسط من ناحية أولى، وبسبب المعطيات الجيوسياسية الإقليمية الجديدة التي تلعب فيها هذه الدولة المغاربية دوراً محورياً من جهة ثانية . وقد باتت المعارضة مقتنعة أن التفكير في التحضير للمرحلة الانتقالية لما بعد بوتفليقة، أصبح أمراً مشروعاً، فالرجل بات قليل الظهور ولا يستقبل ضيوفه من الأجانب إلا بصعوبة بالغة، وأضحى يوكل مهمة القيام بزيارات داخل الجزائر إلى رئيس وزرائه عبد المالك سلال، أما تنقلاته إلى الخارج فتكاد تكون منعدمة . وترى بعض الأوساط المهتمة بالشأن الجزائري أن إقدام بعض وسائل الإعلام على نشر أنباء تفيد أن بوتفليقة قد توفي، كانت تهدف إلى إحراج السلطات الجزائرية والضغط عليها في ما يتعلق بمواقفها في بعض الملفات الدولية والإقليمية الحساسة، كما أن مثل هذه الأنباء وبصرف النظر عن صحتها ومدى مصداقيتها، تخدم بشكل مباشر أهداف أطراف سياسية جزائرية متعددة، بعضها يتحرك من داخل السلطة نفسها وبعضها الآخر محسوب على المعارضة الراديكالية بشقيها الإسلامي المحظور والبربري العلماني، الذي استطاع أن يحقق مكاسب اقتصادية كبيرة في مقابل تراجع مستوى أدائه السياسي خلال فترة حكم بوتفليقة .

نسمح لأنفسنا بأن نزعم في هذه العجالة أن موت بوتفليقة أو بقاؤه حياً لن يغير كثيراً في المشهد المستقبلي للجزائر في مرحلة ما بعد شهر إبريل/ نيسان ،2014 فكل القرائن تؤكد أن الجزائر سيكون لها رئيس جديد في المرحلة المقبلة، لأن ما يتم تداوله بشأن ترشحه لعهدة رئاسية رابعة لا يعدو أن يكون جزءاً من الدعاية الإعلامية التي يراد لها أن تخدم أجندات سياسية معينة . فقد سبق للرئيس أن صرح بشكل واضح أثناء تجمع سياسي نشطه قبل الانتخابات التشريعية السابقة أن زمنه وزمن الجيل الذي ينتمي له قد ولّى . وبالتالي فإن السؤال الأهم الذي سيظل مطروحاً، هو هل سيتمكن بوتفليقة، إن قدر له أن يتماثل للشفاء، من رسم خريطة السلطة بالنسبة لفترة ما بعد حكمه، أم أن خصومه الأقوياء من داخل السلطة سيقولون له اذهب ولا شأن لك بما يمكن أن يحدث بعدك؟

علينا أن نعترف في كل الأحوال بأنه إذا كان لبوتفليقة خصوم كثر فإنه في المقابل قد استطاع أن يحصل على تعاطف مجمل الفئات الشعبية، لذلك فقد ذهبت بعض الأوساط المعارضة إلى تأكيد أن الحكومة أرادت أن تستثمر مرض الرئيس من أجل استمالة المواطنين في مرحلة تعرف فيها الجبهة الاجتماعية الكثير من الفوران على خلفية الاحتجاجات التي تقودها الكثير من التنظيمات والجمعيات النقابية المطالبة بتحسين وضعية العمال وتوفير مناصب شغل كافية للشباب العاطل خاصة في المناطق الجنوبية للبلاد . ويذهب قسم من الشباب الجزائري، من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، إلى القول إن مغادرة الرئيس لمنصبه بعد انقضاء عهدته الرئاسية الحالية سيكون في مصلحته، وسيترك ذلك آثاراً إيجابية بالنسبة إلى الأجيال المقبلة، لأن حصيلته السياسية تعد جيدة فقد أعاد السلم الاجتماعي للبلاد ووضع اللبنات الأولى للإقلاع الاقتصادي، ومكّن الجزائر من التخلص من كل ديونها الخارجية، وأعاد للدبلوماسية هيبتها في ظرف دولي وإقليمي بالغ الحساسية والخطورة، حتى إن تفجّرت في عهده الكثير من الفضائح المتعلقة بملفات الفساد .

أما بالنسبة إلى دور المؤسسة العسكرية في تسيير شؤون الجزائر، فإنه معروف لدى القاصي والداني، ويعود بنا القهقرى إلى المراحل الأولى لاندلاع الحرب التحريرية، التي مالت خلالها الكفة داخل هياكل جبهة التحرير الوطني لمصلحة العسكريين على حساب القيادات السياسية المدنية . وقد ترسخ هذا التقليد بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الرئيس الراحل العقيد هواري بومدين في 19 يونيو/ حزيران من سنة 1965 . وعادت المؤسسة العسكرية لتتصدر المشهد السياسي مرة أخرى، بعد موجة العنف التي تفجرت في الجزائر في مرحلة التسعينات من القرن الماضي . وفي ما يخص فترة حكم بوتفليقة، فإن سعيد بوشعير رئيس المجلس الدستوري السابق يقول، في حوار أجري معه مؤخراً، أن دور قيادة الجيش في الحياة السياسية بدأ يتراجع منذ سنة 2004 في إشارة منه إلى تنحية رئيس الأركان السابق المرحوم محمد العماري، غير أنه يرى أن أصحاب البذلة المدنية داخل الجيش مازالوا يسيطرون على القرار السياسي إلى يومنا هذا،

لذلك فإن بوشعير يقترح إخضاع مسؤولي جهاز المخابرات وأفراد عائلاتهم للرقابة كغيرهم من المواطنين . ويذهب بعض الملاحظين إلى أن حرص بوتفليقة على أمن واستقرار الجزائر هو الذي دفعه إلى عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع بعض رموز المؤسسة العسكرية، نظراً لدورها المحوري والحيوي في المحافظة على استقرار الدولة ووحدة أراضيها، في بلد تتميز مؤسساته المدنية بهشاشة بالغة، نظراً لافتقاره إلى طبقة سياسية تتمتع بالحكمة والرصانة، ولها الاستعداد الكافي لأن تلعب دوراً إيجابياً في صنع مشهد سياسي مستقر سواء داخل السلطة أو من خلال أداء دور إيجابي في سياق معارضة بناءة، تطمح إلى تحقيق الأفضل من دون أن تسفّه الإنجازات والمكاسب التي يتم تحقيقها على أرض الواقع .

وصفوة القول إن الشعب الجزائري لا يعنيه في الوقت الراهن، فك لغز مرض الرئيس إلا بالقدر الذي يُسهم وضعه الصحي الحالي ومكانته الاعتبارية في تحقيق الأمن والاستقرار، في بلد مازال شديد الخوف والإشفاق من عودة صور ذاكرة الحرب، وتحديداً في هذا الظرف الدولي والإقليمي الذي كثرت أهواله وتضخمت تفاصيل شياطينه بشكل مريع .