لا تملك موسكو على الأرجح خطة طويلة الأمد، فمع أنها تعلم أن مؤتمر السلام الذي ترعاه بالتعاون مع الولايات المتحدة سيفشل لا محالة، ما زالت تروج له، لكن خوض هذا الصراع والإعلان عن الحرب بالوكالة الدائرة في سورية هما الأهم في رأيها.

Julia Ioffe


تحول العنف في سورية إلى حرب طائفية، جاذباً المتطرفين الإسلاميين من أنحاء العالم المختلفة، وتصاعد التوتر مع تركيا، بينما بدأ هذا الصراع يحصد أرواح الأتراك ويهدد بالامتداد عبر الحدود. أما الغرب، الذي يقف متأسفاً على ما يحدث ويتساءل عن الطريقة الفضلى للتدخل، فقدم حلاً دبلوماسياً، إلا أن هذا الحل يتطلب تخلي كل الأطراف عن السلاح في آن واحد، وهذا طبعاً مستحيل.
في هذه الأثناء، تواصل روسيا إرسال سفنها لتتجول مهددة في مرفأ طرطوس السوري، حيث تملك قاعدة صغيرة، كذلك لم تتوقف عن بيع السلاح لنظام الأسد، رغم اعتراض الولايات المتحدة. مع ذلك، عبرت روسيا عن أملها واستعدادها لإنجاح حل دبلوماسي بغية تفادي حرب أهلية يُحتمل أن تدوم سنوات.
هل يبدو هذا مألوفاً؟ حدث ذلك في شهر يونيو عام 2012 قبل نحو سنة تقريبا، لكن التفصيل الوحيد الذي تبدل في سورية منذ ذلك الحين كان نطاق الحرب. فقد ارتفعت اليوم حصيلة الضحايا، وازداد عدد المتطرفين، وفي حين صارت أعمال العنف أشد وتوسعت رقعة الحرب خارج الحدود، إلا أن مقاربة سائر دول العالم لم تتبدل بشأن هذه المعمعة. فما زال أوباما يتهرب من الالتزام ويماطل، ويواصل الأوروبيون الضغط لتسليح الثوار على الأقل، أما روسيا، فتتمسك بإصرارها على عدم تدخل الدول الأخرى في الصراع، في حين أنها لا تبذل أي جهد لتخفي سفنها التي تتقاطر إلى ميناء طرطوس، حاملة السلاح إلى الأسد.
إلامَ تسعى روسيا؟ لم تتبدل أهدافها أيضاً: المماطلة والحفاظ على الوضع الراهن قدر المستطاع، ولهذا السبب تواصل السفن الروسية تجوالها في طرطوس، ولا تنفك روسيا ترسل السلاح إلى دمشق. لا شك أن السفن الروسية والصواريخ المضادة للطائرات لن تُستخدم ضد الثوار الذين لا يملكون طائرات أو سفناً، بل تشكل هذه الأسلحة وسيلة روسيا للحفاظ على التوازن، فإن عمدت المملكة العربية السعودية وقطر إلى تسليح الثوار، تسلح روسيا الأسد، وإن اتخذ الغرب خطوات للتدخل، تجعلها السفن الروسية والأسلحة المضادة للطائرات أكثر خطورة. لكن الواقع في حالة تبدل مستمر، وإن كان مألوفاً. ولا شك أن روسيا تواجه صعوبة أكبر في الحفاظ على الوضع الراهن. يذكر فيودر لوكيانوف، محرر مجلة Russia in Global Affairs: quot;تفضل روسيا الوضع الحالي، لكن الجميع يدركون أن الوضع الحالي ما عاد قائماً، بل نشهد اليوم وضعاً يتفكك تدريجياً. يقرون جميعا بتأكل النظام، ولكن حتى متى يصمد؟ كم يمضي من الوقت قبل أن ينهار؟ تستطيع روسيا الانتظار، بخلاف الولايات المتحدةquot;.
يعود استعداد روسيا للانتظار في جزء منه إلى أنها تملك منذ البداية مفهوماً مختلفاً تماماً عن الصراع. يذكر ماكسيم يوسن، مساعد محرر قسم الشؤون الخارجية في الصحيفة الروسية البارزة Kommersant: quot;كي يفهم الأميركيون الموقف الروسي، عليهم أن يدركوا أن الموقف الأميركي والغربي ليس صائباً تماما. الموقف الروسي عملي ولا يعتمد على العواطف. فلا يصدق الروس، على ما يبدو، كل تلك التصريحات العاطفية عن أن دكتاتوراً مستبداً يقمع الحرية والديمقراطيةquot;. منذ بداية الصراع، لا تنفك روسيا تؤكد أن مَن قد يحلون محل الأسد، في حال سقط، لن يكونوا بالضرورة ديمقراطيين ليبراليين موالين للغرب، وأن ما يلي نهاية هذه الحرب قد لا يكون السلام، فمن وجهة نظر موسكو، ما يحدث في سورية هو في الأساس قتال محلي ديني، إلا أننا أصبحنا، على حد تعبير يوسن، quot;أسراهquot;.
يوضح يوسن: quot;تعي موسكو أن من الضروري اتخاذ بعض الخطوات لأن الحرب مستعرة منذ سنتين ويجب أن تتوقف، ولكن إن فاز خصوم الأسد، فستُراق دماء كثيرة وسيُذبح الشيعة والعلويونquot;. ثم يضيف، مكرراً موقف المسؤولين الروس، أن مَن سيخلفون الأسد سيكونون على الأرجح مَن يرفعون راية الجهاد السوداء ويرعَون الإرهاب خارج الحدود السورية. يوضح لوكيانوف أن سورية تحولت منذ زمن إلى موطن مَن هجرتهم انتفاضات القوقاز، منطقة باتت بدروها مرتعا للإرهاب والتمرد الإسلامي. ويتابع: quot;لا شك أن التخلص من نظام مستبد إنما علماني واستبداله بنظام إسلامي سيؤديان إلى تشكل شبكة دعم أخرى للإرهابيين في المناطق المحيطة بروسيا. ويطرح يوسن تشبيها لافتاً، قائلاً: quot;لا يرغب الأسد في استهداف الولايات المتحدة، بخلاف المتطرفين. وهكذا ستحظى الولايات المتحدة بالآلاف المشابهين للأخوين تسارناييف. رغم ذلك، تسعى فرنسا وبريطانيا إلى تسليحهمquot;.
تدعي روسيا في أحد أعذارها الرسمية أن كل هذه المواقف والدعم للأسد، فضلا عن إرسال وفود رفيعة الشأن لتأكيد مساندة الكرملين، لا يرتبط بالأسد، بل بالمبدأ. فقد فاز الرئيس الأسد في الانتخابات، لكن الغرب وحلفاءه العرب قرروا اليوم الإطاحة به كي يضعفوا، في رأي الكرملين، إيران، حليفة سورية الأولى. (للتدخل الأميركي أيضا امتداده في روسيا: بعد أقل من سنة من انتفاضة quot;ميدان التحريرquot;، انفجرت التظاهرات المعارضة لبوتين في موسكو، فحاول القادة الغربيون، أمثال هيلاري كلينتون، تشجيعها، أو هذا على الأقل ما رآه الكرملين). وإذا سقطت سورية، فماذا يحل بإيران وبالتالي بالنفوذ الروسي في المنطقة؟ فَقَدت روسيا صدام ثم القذافي، واليوم الأسد أيضاً؟
هنا يكمن لب المشكلة. لا تملك موسكو على الأرجح خطة طويلة الأمد، فمع أنها تعلم أن مؤتمر السلام الذي ترعاه بالتعاون مع الولايات المتحدة سيفشل لا محالة، ما زالت تروج له. لكن خوض هذا الصراع والإعلان عن الحرب بالوكالة الدائرة في سورية هما الأهم في رأيها. يوضح جورجي ميرسكي، باحث محترم في شؤون الشرق الأوسط: quot;لا ترتبط هذه المسألة بحب الأسد أو بمرفئنا في طرطوس، أو حتى بيع الأسلحة. لا شك أن هذه الأمور مهمة، إلا أنها ليست الأساس. يمكننا أن نستمر من دون سورية ومن دون الأسد. إلا أنه من غير المقبول أن نسمع أحداً يقول إن روسيا ترقص على اللحن الذي تعزفه الولايات المتحدة. هذا مرفوض تماماًquot;. يعتبر ميرسكي هذا الموقف من ترسبات العهد السوفياتي، الذي لم تنجح وزارة الخارجية الروسية في تخطيه تماماً. ويضيف: quot;انهار الحكم السوفياتي منذ عشرين سنة، لكن طريقة التفكير السوفياتية ما زالت قائمة، وخصوصاً في المناصب العليا. ثمة شعور قوي أننا لا نستطيع الوثوق بالأميركيين مطلقا لأنهم سيستغلون أي فرصة ليؤذونا. لذلك من الطبيعي أن نفكر في دعم كل مَن تقف الولايات المتحدة ضدهم في العالم الثالث، والعكس. ينبع كل ذلك من طريقة التفكير السوفياتيةquot;. وهذا يعلل لمَ سمع ميرسكي ذات مرة دبلوماسياً روسياً يقول: quot;أفضل دولة إيرانية نووية على دولة إيرانية موالية للولايات المتحدةquot;.
تكمن مشكلة هذه المقاربة بالنسبة إلى الولايات المتحدة في أن ما بيدها حيلة في هذا الوضع الغريب الحرج. فلا يسعها اتخاذ أي خطوات، في حين أن مَن يتعاونون معها في الظاهر لحمل الطرفين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات يعتبرونها رمز أسوأ مخاوفهم وشكوكهم، وأن هدف كل ما يقومون به ليس الفوز، بل إطالة وضع راهن ما عاد قائماً.