rlm;صلاح سالم

مع إشراق شمس الثلاثاء الماضي كانت الثقافة المصرية علي موعد مع حدثين صادمينrlm;,rlm; يهددان معا بغروب شمس الفن المصريrlm;,rlm; تلك القوة الناعمة التي كثيرا ما تمتعت بها المحروسة في الإقليم والعالمrlm;,rlm; كشاهدة عصر علي ارتقاء الحضارة الإنسانيةrlm;,rlm; وشريك أساسي في استيلاد الضمير الإنسانيrlm;.rlm;

ففي الصباح أعلن وزير الثقافة د. علاء عبد العزيز إقالة د. إيناس عبد الدايم من رئاسة دار الأوبرا المصرية. وذلك بعد أيام قليلة من إقالة د. أحمد مجاهد من رئاسة الهيئة العامة للكتاب, وبينهما تمت إقالة المشرفين علي قطاع الفنون التشكيلية, والبيت الفني للمسرح, ودار الكتب والوثائق القومية. وعند الظهيرة كان اجتماع مجلس الشوري حيث طالب نائب سلفي, وسط تعاطف الحضور, بمنع عروض الباليه في دار الأوبرا, باعتباره فنا للعري, يشجع علي الرذيلة والفجور. ولو أن هذا النائب المحترم حضر عرضا واحدا للباليه لتغير إدراكه لهذا الفن الجميل الذي يملك تأثيرا روحانيا طاغيا علي الجسد, يشبه تأثير اليوجا البوذية, والتي تقترب بالنفس من حالة النيرفانا, حيث تتم الاستنارة الباطنية, وتتمكن الروح من السيطرة علي الجسد.
فإذا عرفنا أن مسارح الأوبرا فقط, في القاهرة والإسكندرية ودمنهور, هي التي تقدم هذه العروض, فمعني ذلك أن سيادة النائب قرر شطب هذا الفن الراقي من مصر دون أدني اكتراث بمن يتعلمونه ويمارسونه, ويتذوقونه. وإذا كان فن الأوبرا يشبه كثيرا فن الباليه في أشكال عرضه, وأنماط لباسه, وطبيعة موسيقاه, فالمتصور أن تلحق عروض الأوبرا بعروض الباليه للسبب نفسه, ما يجعل دار الأوبرا اسما علي غير مسمي, وقد يلي ذلك حجب حفلات الموسيقي العربية لأن الفنانات غير محجبات, وربما حفلات عمر خيرت( غير الملتحي).. وهكذا في صيرورة كارثية تقضي علي صورة مصر كبلد متمدين.
مبدئيا يحق لكل وزير تغيير مساعديه في الهيئات الكبري التي تتبع وزارته, بشرط أن يكون للتغيير منطق وضرورة, كأن يتقاعس أي منهم عن القيام بدوره المفترض, أو يكون مفتقرا من الأصل للكفاءة العلمية والقدرات الشخصية التي تبرر له شغل منصبه علي نحو يستعدي عليه مرءوسيه, مثلا, فيحتجون عليه, أو يكون فاسدا ماليا وإداريا. والأهم من ذلك أن تسبق الإقالة عملية بحث ودراسة لحالاتهم تحتاج لأسابيع وربما لأشهر, وأن يليها محاكمات ضرورية لهؤلاء إن كان في الأمر فساد, فمن حق المصريين أن يعلموا كيف تنفق أموالهم, وأن يروا مغتصبيها في قبضة القانون.


والملاحظة المبدئية التي تثير الريبة هنا هي أن السيد الوزير لم يتوان ولو لأيام قبل أن يبدأ مسلسل الإقالات, مما يعني أنه لم يدرس ملفات المقالين, ولم يطلع علي أحوال هيئاتهم, وهو أمر تبدي في خبر نشرته( الأهرام) علي صفحتها الأخيرة في اليوم التالي لإقالة د. إيناس عبد الدايم, جاء فيه أن سيادته سوف يعلن لاحقا عن أسباب الإقالة!, وهو منطق معكوس يشي بأحد أمرين:
فإما أنه رجل يتسم سلوكه بالعشوائية والتسرع, غير قادر علي تقييم المحيطين به, وهو أمر وشت به مشاعر التقدير لدي جمهور الأوبرا ومثقفي مصر لإيناس عبد الدايم. وأيضا مشاعر الود العميق لدي العاملين بالدار, لدرجة دفعتهم إلي التظاهر من أجلها, كما دفعت د. رضا الوكيل, الأستاذ بالأكاديمية, إلي رفض قرار الوزير بالحلول محلها. وأخيرا مشاعر العرفان من فناني الأوبرا أنفسهم إلي درجة التوقف عن العمل وفاء لها.
وإما أنه قام بما قام به لدوافع( نفسية) خصوصا وقد نشرت الصحف أنه حصل علي الدكتوراه قبل ثلاث أو أربع سنوات فقط, وأنه(52 عاما) لا يزال مدرسا بالأكاديمية, فيما بعض مرءوسيه حصل علي درجة الدكتوراه قبل25 عاما, ويحمل درجة الأستاذية منذ15 عاما, وأنه كان قد فصل من عمله قبل أن يعود إليه بحكم قضائي, مما يعني أنه رجل غير نزيه, يسمح لمشاعره السلبية بالتغول علي الصالح العام.
وفي الحقيقة لا يمكن فهم إقالة د. إيناس عبد الدايم في الصباح إلا في سياق نقاش مجلس الشوري في المساء, فالسيدة التي لم أرها إلا علي المسرح, كعازفة فلوت, هي ابنة للفن المصري بامتياز, بذلت عمرها لأجله سواء داخل أكاديمية الفنون حيث تدرجت من رئيس قسم النفخ بمعهد الكونسرفتوار, إلي عميدة للمعهد, إلي موقع نائب رئيس الأكاديمية. أو داخل الأوبرا نفسها كعازفة بأوركسترا القاهرة, قبل أن تصبح رئيسة لها. ومن ثم لم يكن متصورا أن تقبل العبث بنظام الأوبرا أو الاجتراء علي الفن المصري, ويبدو أن الوزير يعلم ذلك يقينا, كما يعلم أنه أتي لموقعه, مغمورا ومجروحا, كي يلبي الأوامر, ومن ثم فقد اختار إقالة إيناس الفنانة قبل المسئولة, ليأتي بمن يطيعه سرا, بدلا من خوض معارك علنية لا يقدر عليها حول الفن ومعاييره, والأوبرا وقيمها, ومصر ورسالتها.
وكذلك لا يمكن فهم الحدثين معا إلا بوضعهما في سياق أشمل وهو الرغبة في السيطرة علي روح مصر التي كثيرا ما كانت جسرا ثقافيا عميقا مرت عليه ثقافات العالم الحديث بكل تجلياتها الفلسفية والأدبية والفنية إلي العالم العربي, الذي كثيرا ما نهل أبناؤه علما من جامعاتها خصوصا الأزهر والقاهرة, وأدبا من صحفها ومجلاتها خصوصا الأهرام والرسالة, وفنا من سينماتها ومعارضها ومسارحها, وبالذات من أوبراها, الأعرق في الشرق الحضاري كله, منذ افتتح الخديو اسماعيل دارها القديمة علي شرف الإمبراطورة الفرنسية أوجيني قبل قرن ونصف القرن تقريبا قبل أن تحترق بنار الإهمال والفساد مطلع السبعينات, وحتي افتتح الرئيس السابق دارها الحالية قبل عقدين ونصف العقد, والتي توشك علي الاحتراق بنار الجهل والتسلط.
القضية إذن ليست في شخص د. إيناس عبد الدايم, التي لا تربطني بها علاقة شخصية, وهي علاقة تشرفني في كل الأحوال, ولا تخص دار الأوبرا وحدها علي أهميتها كإحدي قلاع الفن الرفيع, وإحدي بؤر التمدن القليلة الباقية وسط ركام السوقية المحيط بنا, ولكنها تخص الثقافة المصرية في العموم, والتي تتعرض لمحاولة اغتيال هدفها النهائي ترويض الشخصية المصرية, المنفتحة والمتمدينة, ليسهل حبسها في كهوف التزمت وصبها في قوالب نمطية تتناسب ومتطلبات العصر الجديد.