عبد الباري عطوان

عندما تعطي المؤسسة العسكرية المصرية النخبة السياسية المتصارعة، سلطة ومعارضة، مهلة مقدارها 48 ساعة لتسوية خلافاتها، والا فإنها ستضع خريطة طريق وتفرضها على الجميع، فهذا يعني ان الفريق اول عبد الفتاح السيسي رئيس هذه المؤسسة ووزير الدفاع هو الرئيس الفعلي لمصر، وهو صاحب القرار الاول والاخير.


لا نعرف ماذا يخفي الجيش في جعبته من قرارات ومواقف اخرى، مثلما نجهل في الوقت نفسه ملامح الخريطة التي تحدث عنها الفريق السيسي، ولكن ما يمكن قوله في هذه العجالة ان المعارضة المصرية بمظاهراتها المليونية التي نظمتها يوم امس الاول في ميادين عدة، نجحت في جرّ الجيش الى ميدان مطالبها، وحشر الرئيس مرسي وحركة الاخوان المسلمين في زاوية صعبة للغاية.
المهلة الجديدة الاقصر (48 ساعة) ستنقضي مثل المهلة الاولى الاطول (اسبوع)، دون تحقيق اي اتفاق، او توافق، بين الرئيس مرسي وخصومه، لان الهوة واسعة بين مواقفهما، فالمعارضة تطالبه بالتنحي وتسليم السلطة الى رئيس المحكمة الدستورية، والدعوة الى انتخابات مبكرة، وهو يرفض هذا المطلب بصلابة، ويعلن انه الشرعية، ويدعو انصاره للتظاهر لحمايته.
الفريق السيسي لم يكن يخاطب في بيانه ما قبل الاول الرئيس او المعارضة، فقد تجاوزهما بالكامل، وتوجه الى الشعب المصري بلغة رقيقة حنونة مليئة بالحب والولاء، واثبت بذلك انه اكثر وعيا ودراية، بل وسياسة، من جميع السياسيين واحزابهم، وهنا تكمن المفارقة.
قائد الجيش المصري اظهر حرصا على مصر وامنها القومي، ودماء الشعب المصري، وطموحاته الوطنية، من النخبة الحاكمة او المعارضة (بكسر الراء)، مثلما كشف عن نظرة مسؤولة للمستقبل في وقت كانت النخبة تفكر بحاضرها، وتعمل من اجل الثأر من خصومها حتى لو ادى ذلك الى انهيار الدولة المصرية وهيبتها ومؤسساتها.
lsquo; lsquo; lsquo;
الجيش تدخل من اجل تصحيح مسيرة الثورة المصرية، واعادتها الى الطريق السليم الذي اخرجها عنه انانية السياسيين، بسبب خروجهم عن القيم الديمقراطية، وابرزها الحوار والتعايش والمشاركة وعدم اقصاء الآخر.
هناك خيارات عدة امام المؤسسة العسكرية الضابطة لإيقاع الاحداث في مصر، يمكن اختصارها في النقاط التالية:
اولا: الاستيلاء على السلطة واعلان حالة الطوارئ والاحكام العرفية، وحلّ كل المؤسسات القائمة مثل مؤسسة الرئاسة ومجلس الشورى. والضرب بيد من حديد على كل من يعرض الامن المصري للخطر او يخرج على القانون.
ثانيا: الاعلان عن انتخابات برلمانية ورئاسية في غضون بضعة اشهر، وتشكيل مجلس رئاسي برئاسة رئيس المحكمة الدستورية العليا، وتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد تضم مختلف الوان الطيف السياسي.
ثالثا: حل الحكومة الحالية، واستبدالها بحكومة وحدة وطنية من الكفاءات في مجالات الاختصاص كافة، مع اعطاء دور خاص للقيادات الشبابية التي وقفت خلف lsquo;حركة تمردrsquo; صاحبة الفضل الاول في اطلاق عملية التغيير الراهنة.
الخيار الاول، اي استيلاء الجيش على السلطة واعلان حالة الطوارئ، سيظل الخيار الاخير، وسيعتمد اللجوء اليه الى عدة عوامل ابرزها ردّ فعل حركة الاخوان والرئيس مرسي، على بيان المؤسسة العسكرية، رفضا او قبولا، فالقبول يعني استمرار العملية الديمقراطية، والرفض سيؤشر الى التمرد، وأخذ دور المعارضة بالتالي، وهذا تطور خطير لو حدث فعلا.
ومن هنا فإن الخيارين الاول والثاني، اي الدعوة الى انتخابات رئاسية وبرلمانية وتسليم السلطة الى مجلس رئاسي، الاكثر ترجيحا، بالنظر الى آخر التطورات على الارض والترحيب الشعبي الكبير الذي لقيه بيان الفريق السيسي.
الرئيس محمد مرسي لم يقرأ الموقف على الارض قراءة جيدة، ويتخلَ بالتالي عن موقفه الرافض للدعوة الى انتخابات مبكرة لقطع الطريق على خصومه، مع اعترافنا بانه الرئيس الشرعي المنتخب، فالسياسة هي فن المناورة، وابداء المرونة عندما يتطلب الموقف ذلك، والصلابة عندما يتم التأكد من جدواها واعطاء ثمارها.
lsquo; lsquo; lsquo;
في حديثه لصحيفة lsquo;الغارديانrsquo; البريطانية اعترف الرئيس مرسي بخطئه، وعبر عن ندمه للتسرع بإصدار الاعلان الدستوري، والشيخ يوسف القرضاوي اكد ان الرئيس مرسي ليس إماما معصوما عن الخطأ، وطالب بإعطائه فرصة لتصحيح اخطائه، ولكن هذا الطلب مستحيل لانه جاء وملايين المعارضين يملأون الميادين والشوارع مطالبين برحيل الرئيس.
نصائح الشيخ القرضاوي جاءت متأخرة وفي الوقت الخطأ، وبعد خراب مالطا مثلما يقول المثل. الرئيس مرسي افتقد الى البطانة الصالحة والمستشارين الاكفاء في المجالات كافة، وبما يؤدي الى تقليص الخسائر وتجنب الاخطاء الكبرى، وابرزها التسرع في وضع الدستور، والصدام مع المؤسسة القضائية رغم التحفظات العديدة والمشروعة تجاه بعض نوايا قضاتها.
الشعب المصري، الذي هو مصدر كل السلطات، هو الذي انتصر بالأمس، وسينتصر اليوم، هذا الشعب الممثل في lsquo;حركة التمردrsquo; وليس في رموز المعارضة، الذين يكرهون بعضهم البعض اكثر من كرههم للرئيس مرسي وحركة الاخوان، فهذه الكراهية، وليس مصلحة مصر، هي العنصر الوحيد الذي يوحدهم.
اكثر ما نخشاه ان يرفض الاخوان والرئيس مرسي خريطة الطريق التي يطرحها الجيش وتكثيف نزولهم للشارع. نحن نريد ان يكون هناك توافق بين الجيش والاطراف السياسية كافة للوفاق حول خطة طريق لانقاذ مصر.
بيان الجيش، من حيث مضمونه وتوقيته، شكل الخطوة الاولى للخروج من الأزمة، وتبديد معظم مخاوف الشعب المصري واعطائه شحنة من الامل في المقابل، الامل في الامن والقضاء على كافة اعمال البلطجة الامنية والسياسية معا، واستعادة هيبة الدولة ومؤسسة الرئاسة معا.