محمد السعيد ادريس

صدمتان أحدثهما نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية السابق لكل المتابعين والمهتمين بالشأن العراقي، الأولى عندما أصر، بعد عناده الطويل على أن يجدد لنفسه في منصب رئيس الحكومة، على أن يكون نائباً أول لرئيس الجمهورية، وهو يدرك، قبل غيره، مدى فداحة ما ألحقه بالعراق جراء سياساته الطائفية وولاءاته الخارجية، ما جعل العراق مهدداً بالتقسيم تارة وبالحرب الأهلية تارة أخرى في ظل ضغوط الهيمنة الخارجية الأمريكية والإيرانية معاً في تقاسم غير مسبوق للنفوذ في العراق . ثم عندما ركب رأسه وعناده وأنكر مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة التي لحقت بالجيش العراقي أمام هجوم "داعش" الذي استطاع أن يتقدم بسهولة غير متصورة داخل ثلاث محافظات عراقية وان يحكم قبضته على الموصل ويعلنها عاصمة مؤقتة لدولته لحين الوصول إلى بغداد .


ففي تصريحات مثيرة نقلتها وكالة أنباء الأناضول (21/11/2014) زعم المالكي أن سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم "داعش" كان نتيجة مؤامرة، وان الجيش العراقي "لم ينهزم بل انسحب" بموجب اتفاق بين جهات معينة لم يحددها . وخلال مؤتمر صحفي بمدينة ذي قار قرب مدينة الناصرية جنوب العراق زاد المالكي ان الجيش العراقي "لم يقاتل في الموصل ولم يحصل أي اشتباك مع عصابات "داعش" هناك، مشيراً إلى أن ما جرى هو بالتحديد "اتفاق مسبق وضع في غرفة عمليات مشتركة بين جهات سياسية لإسقاط المدينة" .


وقد تجنب المالكي الخوض في تحديد تلك الجهات التي تآمرت على العراق وجيشه، لكنه اكتفى بالاشارة إليها بأنها "تلك الجهات التي كانت تصف الجيش العراقي بالصفوي والطائفي" .
هذه الاعترافات الصادمة لا تعني عند المالكي هزيمة منكرة للجيش، وهو الذي أوصل جيش العراق ليكون إلى هذا الحد قابلاً للاختراق وللتآمر، وهي كلها أمور تنفي كل معنى للالتزام العسكري والانضباط في صفوف هذا الجيش، الذي لم يقدم قادته إلى المحاكمة العسكرية حتى الآن بتهم لا تقل عن الخيانة العظمى، على الرغم من الفضائح والكوارث غير المسبوقة التي كشف بعضها حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية مؤخراً .


ففي أول اعتراف رسمي عراقي بحجم الفساد في المؤسسة العسكرية، كشف رئيس الوزراء العبادي عن وجود 50 ألف اسم وهمي في سجلات الرواتب بوزارة الدفاع، وكشف خلال وجوده يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني الفائت في مجلس النواب عن وجود 50 ألف اسم وهمي في اربع فرق عسكرية . هذا الكشف جاء في أول جهود المراجعة والاصلاح والتدقيق التي تحاول كشف أسرار ما حدث للجيش العراقي من انهيار وعمليات هروب جماعية كشفتها صور على الانترنت أظهرت الجنود العراقيين وهم يستبدلون بالزي المدني ملابسهم العسكرية قبل أن يفروا من معسكراتهم في الموصل في يونيو/حزيران الماضي، كما أظهرت كاميرات الصحفيين الأرتال العسكرية وهي تصل بكامل عتادها وأسلحتها إلى حدود مناطق إقليم كردستان العراق .


هذه الجرائم يجب ألا تمر من دون محاسبة للقادة قبل الجنود وللسياسيين قبل العسكريين، لأنها تعد جرائم دولة، ومعالم انهيار دولة وليس فقط المؤسسة العسكرية، وإذا لم تعالج الأسباب الحقيقية وراء كل هذه الجرائم سيكون من المستحيل الحديث عن قيام دولة حقيقية في العراق او انتصار على مشروع "داعش" الذي يتجاوز حدود العراق ويطمح لتأسيس "خلافة إسلامية" على أنقاض الدولة العراقية أولاً ومنها يتمدد إلى جوار العراق العربي والإقليمي .
التدقيق في هذه الجرائم ليس معضلة وليس مستحيلاً، فالكثير من أدق معلومات فساد المؤسسة العسكرية العراقية بات معروفاً لدى الكثير من المصادر .


فقد تضررت القوات المسلحة العراقية من الفساد العام المستشري، واشتكى صغار الضباط من قيام كبار موظفي وزارة الدفاع بطلب رشاوى قدرها ثلاثة آلاف دولار للحصول على موقع داخل أكاديمية تدريب الضباط، وبلغ سعر الترقي إلى رتبة الجنرال ثلاثين ألف دولار، ولاسترداد هذه المبالغ (الرشوة) اتجه الضباط إلى وضع "كشوف مزيفة" ضمن أسماء لمجندين وهميين، وان هذه المبالغ استنزفت 25% من ميزانية الرواتب السنوية . كما ان الضباط يستولون على الأموال المخصصة لغذاء الجنود والمؤن . وتشير بعض التقارير إلى أن الجنود كانوا يضطرون في الموصل خاصة لشراء احتياجاتهم من الأسواق المحلية ويطبخون طعامهم بأنفسهم .


لكن ما هو أهم هو امتداد الفساد السياسي إلى الجيش تحت زعامة المالكي . فقد انكسرت شوكة الجيش العراقي، وفقد انضباطه العسكري مع التدخل المباشر للمالكي خلال فترة رئاسته للحكومة . فبعد عام 2006 نجح في قلب حال الجيش عندما ربط كبار القادة والوحدات العسكرية بشخصه، ثم قوض التسلسل الرسمي للقيادة، فبنى الجيش الجديد على عجل، بحيث جاء تركيبه المؤسسي هشاً، ولجأ إلى استخدام سلطاته في مجلس الوزراء لتحصين سيطرته على الجيش والقوات الخاصة والمخابرات .


ولقد ضمن المالكي سيطرته على قوات الأمن العراقية عبر قيامه بإنشاء تنظيمين اضافيين، الأول: مكتب القيادة العامة للقوات المسلحة، الذي اعتبر المستشارون الأمريكيون في بداية الأمر أنه سيكون بمثابة منتدى متناسق يترأسه رئيس الوزراء، لكن المالكي غيّر طبيعة عمله، وحوّله إلى أداة سيطرة وتحكم، عندما ضاعف من أعداده، وزاد من نفوذه وحدود اختصاصاته وضمه إلى مكتبه وعيّن أحد حلفائه للقيام بإدارته، ما شجع هذا المكتب إلى أن يتحول إلى قيادة عسكرية بديلة للقيادة الرسمية عندما أخذ يصدر الأوامر مباشرة لقادة الحرب، مما قوض التسلسل الهرمي للقيادة، خصوصاً بعد أن أعطى هذا المكتب لنفسه سلطة تعيين وترقية الضباط .


أما الوسيلة الثانية التي لجأ إليها المالكي لفرض سيطرته على الجيش فكانت عبر اللجوء إلى تعدد مراكز القيادة الاقليمية، أي تفكيك وحدة القيادة بأجهزة متعددة تؤول في النهاية إلى سيطرته المباشرة، بعد وضع خطة أمن بغداد في فبراير/شباط 2007 أنشئت هيئة عمليات بغداد للتنسيق بين القوات العراقية في المدينة، بما فيها قوات الشرطة والجيش، ثم أنشئت مراكز القيادة الاقليمية بين القوات العراقية في المدينة، الأمر الذي استتبع خضوع الشرطة والجيش إلى جنرال واحد في كل إقليم، وكان يتم اختيار الجنرالات والسيطرة عليهم من قبل مكتب بغداد الذي يقع في قبضة المالكي . ولذلك قامت مراكز القيادة الاقليمية بالالتفاف على قيادة وسيطرة وزارة الدفاع على الجيش، فخوّل ذلك للمالكي القدرة على تعيين كبار القادة في المناطق ذات الحساسية الاستراتيجية .
&

هكذا جرى تسييس القيادات العليا للقوات المسلحة، وجرى فرض المعايير الطائفية، والغلو في التمييز والإقصاء للضباط الستة تحت مزاعم اجتثاث البعث، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تفكك الجيش وانهياره أمام عصابات "داعش" .
هذا كله يتضمن اشارات إلى أن الحرب على "داعش" ستبقى قاصرة وأن وجود "داعش" في العراق وسوريا على الأقل سيبقى إلى أجل غير محدود، طالما أن المؤامرة الحقيقية على العراق وجيشه لم تتكشف بعد ولم يجرؤ أحد على فتح ملفاتها .