هاشم صالح
&
في الوقت الذي تنهمر فيه القنابل الحارقة على شعب غزة الفقير المحاصر وتسبب عشرات وربما مئات الضحايا الأبرياء، لا يملك المرء إلا أن يشعر بالعجز والغضب الأخرس المكبوت. لقد قيل كل شيء عن قصة فلسطين إلى درجة أنك لم تعد تعرف ماذا تقول.. لن أدخل في تحليلات سياسية عن الانفجار الحالي، فهناك خبراء أقدر مني على معالجة الوضع وسوف يفعلون ذلك حتما على صفحات الجرائد العربية والعالمية، سوف أكتفي فقط بطرح بعض التساؤلات الفلسفية، لأن مشكلة فلسطين من أخطر القضايا الفلسفية في رأيي، بل أكاد أقول بأنها قضية فلسفية قبل أن تكون قضية سياسية؛ أقصد بالقضية الفلسفية هنا تساؤلات من النوع التالي: هل يوجد شيء اسمه حق وعدل في التاريخ أم لا؟ هل القوة الهمجية المحضة هي التي تحسم حركة التاريخ دائما يا ترى؟ بمعنى آخر: هل حقيقة القوة (أي إسرائيل) تنتصر دائما على قوة الحقيقة (أي فلسطين)؟ هناك سؤال آخر وربما كان الأهم: ألا يدفع المعتدي الظالم ثمن ظلمه يوما ما؟ بمعنى آخر أيضا: ألا توجد عدالة كونية أو عناية إلهية في هذا العالم؟
أعتقد أن كبار الفلاسفة ومن بينهم لايبنتز وكانط وهيغل وسواهم، كانوا يعتقدون بوجود مثل هذه العدالة الكونية، وهي عدالة تقتص من المعتدي الظالم طال الزمن أم قصر، وهنا يكمن العزاء الوحيد للمظلوم المضطهد المغلوب على أمره، بعد أن استفردوا به أو اختلوا به تماما، نحن مضطرون للإيمان بذلك وإلا فالجنون أو الانتحار! إني أعرف عم أتحدث وماذا أقول.
كثيرا ما طرحت على نفسي هذا السؤال: ماذا كان سيحصل لو أن قادة المشروع الصهيوني استقر رأيهم على أوغندا أو الأرجنتين كوطن قومي لليهود بدلا من فلسطين؟ من المعلوم أن التاريخ تردد أكثر من مرة قبل أن يحسم أمره ويستقر على فلسطين وتكون الكارثة الكبرى.
ومعلوم أيضا أن هرتزل نفسه عندما زار فلسطين خلسة أو سرا للاستطلاع لم تعجبه أو هكذا يقال. نعم كان هناك قادة يريدون إقامة الدولة في ذينك البلدين اللذين يحتويان على مناطق شاسعة فارغة من السكان تقريبا، ولكن التيار الأصولي المتدين رفض قطعيا أي خيار آخر غير «الأرض الموعودة». لو انتصر التيار العلماني غير المرتبط دينيا وعاطفيا بفلسطين لما كانت هناك أي مشكلة، بل ولصح الشعار الصهيوني الشهير: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وعندئذ كانت المشكلة قد انحلت من تلقاء ذاتها. الانسداد التاريخي ناتج عن هذه الحقيقة البسيطة: فلسطين كانت مليئة بشعبها على عكس أوغندا والأرجنتين، وبالتالي فلا يمكن أن تقيم شعبين على ذات الأرض، أحدهما سوف يطمس الآخر أو «يطحشه» أو يقتلعه كليا من جذوره لا محالة ويحل محله.
قانون فيزيائي! أنا لست رجل سياسة ولا أفهم في السياسة، ولذلك أطرح مثل هذه التساؤلات البدائية الساذجة وربما المغفلة. بالمناسبة لا أفهم ريجيس دوبري الذي أحترمه وأقدره عندما يقول: المشكلة ليست في «48» وإنما في تأبيد أسلوبها التوسعي والاستيطاني على طول الخط! لا أعرف لماذا يتوقف المشروع الصهيوني عن استعمار فلسطين عن بكرة أبيها إذا كانت الضربة الأولى قد نجحت معه، هذا ناهيك بالضربة الثانية «67»! منطقيا سوف يظل مستمرا حتى يبلع فلسطين كلها. إذا نجحت معك المحاولة الأولى، لماذا لا تجرب المحاولة الثانية والثالثة، الخ؟.
أتمنى أن تكون تساؤلاتي مغلوطة، أتمنى أن أكون أغبى خلق الله في السياسة وهذا جائز، ولكن اشرحوا لي كيف يمكن حل المشكلة؟ كيف يمكن فك هذا الانسداد التاريخي الأطول في تاريخ البشرية!
من بين المثقفين اليهود الذين أحترمهم في فرنسا شخص يدعى روني برومان، وقد صرح أكثر من مرة بما معناه: «ما كان ينبغي على اليهود أن يفعلوا ما فعلوه في فلسطين، القصة كلها خطأ من أولها إلى آخرها، فاليهودي ينبغي أن يظل مشردا في شتى أنحاء العالم وليس بحاجة إلى دولة خاصة به، فهذا هو الوضع الوجودي الذي يناسبه من الأزل وإلى الأبد، إنه لا يبدع ولا يزدهر إلا في مثل هذا الجو»، (بهذا المعنى فأنا يهودي أيضا!).
أضيف على نفس الخط بأن الثمن المدفوع لقاء إقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين باهظ جدا من الناحية الأخلاقية والإنسانية، فاستئصال شعب بأسره من على أرض آبائه وأجداده ليس بالعملية البسيطة، وبالتالي فاليهود خسروا رصيدهم الأخلاقي الكبير المتراكم جراء الاضطهادات التي تعرضوا لها على مدار التاريخ، لقد خسروه بسبب التنكيل بشعب آخر كان آمنا مطمئنا، فإذا بهم يغزونه فجأة في عقر داره ويدمرونه تدميرا من دون أي ذنب ارتكبه تجاههم، وهكذا أحدثوا شرخا عميقا بيننا وبينهم إلى أبد الدهر:
ضغينة تتنزى من جوانحنا
ما كان أغناكم عنها وأغنانا
قد تقولون: كل هذه تساؤلات ميتافيزيقية تجاوزها الزمن، فنحن أمام معضلة رهيبة بعد أن وقعت الفاس بالراس، وحصل ما حصل، نحن أمام أمر واقع ودولة جبروتية تملك أقوى جيش في المنطقة، وبالتالي فقد تجاوز الزمن تساؤلاتك «الخنفشارية»، ربما.
على أي حال أنا أول من يتمنى التوصل إلى حل وسطي معقول، كما اقترحه الأمير تركي الفيصل أخيرا، إنه، وبذكاء شديد أو لباقة منقطعة النظير، يدافع عن حقوق العرب والفلسطينيين. كم أتمنى أن تنجح، بل وأن تعود أجواء الأندلس الحضارية مرة أخرى. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ أنا لست ضد الحل إذا كان هناك حل! والله، أتمنى أن أغمض عيني وأفتحهما فإذا بالمشكلة محلولة ومنتهية ونفتح صفحة جديدة، ألا يحق لنا أن نعيش يوما أو يومين في هدوء؟ ألا يحق لهذا الشعب الصابر المصابر أن يرى بصيص نور في نهاية النفق المظلم والكابوس المجرم؟
التعليقات