رضوان السيد

سافرت إلى مصر وبيدي كتاب صديقي الدكتور خالد زيادة، سفير لبنان في مصر، وعنوانه «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب» (!)، وفي المطار اشتريت مجلة «الايكونوموست»، وغلافها عنوانه «الأوروبي الذي لا يمكن الاستغناءُ عنه»(!). والأوروبي المقصود هو بالدرجة الأولى ألمانيا وميركل. لقد تبين أن «أوروبا الألمانية» -وهو عنوان كتاب آخر لألماني يساري يكره ميركل والوحدة الأوروبية(!)- ضرورية لبقاء أوروبا سواء أكانت موحدة أو متفرقة، وضرورية لبقاء السلام العالمي عندما ينشب الصراع بين أميركا وروسيا وحتى بين أميركا والصين! وهي ضرورية للعالم كلّه وبخاصة العرب والأفارقة الذين يلجؤون إليها هذه الأيام بمئات الآلاف، وقد يصلون إلى الملايين!


على أن هذه الضرورة اقتصرت حتى الآن على تحميل أوروبا (ألمانيا وفرنسا) أعباء عسكرية ومالية دون الإسهام في حل أي مشكلةٍ إلاّ استناداً إلى إذن أو أمر أميركي، أو توافق أميركي روسي على إعطاء الاتحاد الأوروبي دوراً ما في مشكلةٍ معينة. والمشكلة إذن تكمن في ضآلة الهيبة أو عدم التمكُّن والتمكين.

ما نقرره هنا بدا واضحاً في التأزمات المنتشرة منذ التسعينيات في البلقان وجمهوريات البلطيق وجورجيا وأبخاريا، وفي الأعوام الأخيرة في القرم وأوكرانيا. لقد كانت مشكلات أوروبية، لكنها تجلت كصراع أميركي روسي، وما استطاع الأوروبيون التدخل لنشر السلام في أي مكان. فحتى قوات حفظ السلام التي أرسلوها بالتوافق مع الولايات المتحدة، ما كانت لها هيبة. وإنما انحلت المشكلات (مؤقتاً) بالتدخل الجوي الأميركي في كل مكان. وفي أوكرنيا التي أساءت كثيراً قضيتها للعلاقات بين بوتين وأوباما، عرضت ألمانيا وساطتها دون أن تتوصل لشيء محسوس فيما وراء وقف إطلاق النار على الجبهات في الشرق الأوكراني. وهكذا فإن أوروبا بثقلها الاقتصادي ونجاحها السياسي، ظلّت «قزماً» في المجال الاستراتيجي رغم تدخل فرنسا في خمس دول أفريقية!

ثم إن أوروبا الآن تستطيع أن تكون حاسمةً في وساطاتها إذا شاءت التدخل في الشرق الأوسط. وذلك لأن ميركل كانت شجاعةً في استقبال اللاجئين، وهي تستطيع أن تكونَ شُجاعة في التأثير لحلّ مشكلتي سوريا وليبيا. وفي كلا البلدين فإنّ التدخل البنّاء كفيلٌ بإنهاء نصف المشاكل هناك.

إذا قامت حكومة توافُق وطني في ليبيا، يمكن للدولة الليبية البدء في ضبط حدودها بمساعدة أوروبا وأميركا. لكنّ الحكومة تحتاج إلى التمكين في القيام والعمل. ولن يتوفر شيء من ذلك ما دام الليبيون لا يتفقون، والأوروبيون لا يستطيعون التأثير، إذ ما تزال أميركا تقيدهم بالأطلسي، وهناك عملية معقدة لإجازة التدخل ولو بالضغط شبه العسكري، والتي من فوائدها إيقاف تدفق المهاجرين على أوروبا. والوضع في حالة سوريا أوضح؛ فالمنطقة الآمنة في شمال البلاد تخفف كثيراً من تدفق المهاجرين إلى تركيا ثم إلى أوروبا. والطريف أن ألمانيا كانت تعارضُ «المنطقة الآمنة» بناءً على التأثير الأميركي، لكنها الآن تتحول للضغط من أجلها هي وفرنسا وتركيا والسعودية!

خالد زيادة رأى أن القيم والمؤسسات الأوروبية فشلت عندنا، وضعُف الحماس من حولها في أوروبا نفسِها.

لا أريد الاحتجاج للحاجة إلى أوروبا بداعي تدفق المهاجرين العرب عليها. فهذه الحاجة قد تكون مؤقتة، بل أذهبُ إلى أننا مثل بقية العالم محتاجون إلى أوروبا، لأن القيم والمؤسسات التي يقوم عليها «العالم» هي قيمٌ ومؤسسات أوروبية. ومن لم يدرك ذلك فليقرأْ كتاب كيسنجر «النظام العالمي» (2013)، وكتاب فوكوياما «الدولة.. الازدهار والانحسار» (2012).

إن المحنة الآن، ليست في الحاجة إلى أوروبا أو عدمها، بل في أن القيم والمؤسسات في ناحية، والقوة والقدرة في ناحية أخرى، والمشكلة الأخرى أن أياً من الأمرين ليس متوافراً بالشكل الكافي في ديارنا!
&