كمال بالهادي
&
مع تصاعد التهديدات الإرهابية، لعدد من الدول الأوروبية ولأمريكا وروسيا، بدأت العصابات الإجرامية، المنتمية للمافيا الدولية بإصدار تحذيرات للجماعات المتشددة، وتحذّرها من المساس بأمن المواطنين الذين يقعون تحت حمايتها. عالم منكوب حيث أصبح فيه الصراع بين التنظيمات الإجرامية، ينقل على الهواء مباشرة، ويستفتى فيه أصحاب الصُحف السوداء، لمعرفة كيفية التصدي لأصحاب الرايات السوداء.
&
هذه الحقائق، تذكّرنا بقصة الثعلب والديك، في قصيدة أمير الشعراء، أحمد شوقي، «بَرَزَ الثعْلَبُ يوماً *** في ثياب الواعِظينا/ فَمَشى في الأرضِ يَهْدي *** ويَسُبُّ الماكرينا». فأن يخرج زعماء المافيا للحديث عن كيفية مواجهة تنظيم «داعش»، فذلك يعني أن العالم بات يمشي على رأسه. لأن المافيا الدولية هي وجه آخر للإرهاب الذي تعانيه عدة دول. وعليه وكأن عقلاء العالم وحكامه استنفدوا كل الوسائل في مقاومة التنظيم الإرهابي، ولم يبق غير جماعات المافيا لتدلي بدلوها في هذه القضية ذات الأبعاد الدولية المتشابكة والمعقدة.
&
أحد قادة العصابات الإجرامية في نيويورك، قال في حوار تلفزيوني، إن «وضع المافيا أفضل من وضع الجهات الأمنية في مقاومة التهديدات الداعشية». وقال جيوفاني غامبينو، وهو أحد زعماء المافيا الأمريكية «معرفة المافيا بالحركات الفردية والتفاعل مع السكان المحليين يعطيها اليد العليا، حتى بالمقارنة مع التكنولوجيات المتقدمة التي تستعملها الشرطة». وقال لو فكرت داعش في إيذاء نيويورك فعليها أن تستعد لمواجهة مافيا صقلية، كاشفاً عن أن التنظيم الإرهابي يخشى كثيراً المافيا الإيطالية التي تعتبر الأقوى دولياً.
&
تحدي المافيا لداعش، مثل في نهاية الأسبوع الماضي، حدثاً إعلامياً مهماً، حيث اكتسح الخبر مواقع التواصل الاجتماعي وتناقلته كبرى وسائل الإعلام، والتي تعتبر صانعة للرأي العام.
&
والحقيقة أن مثل ذلك الاهتمام يعبّر عن مخاوف عالمية حقيقية من التنظيمات الإرهابية، ويعبّر كذلك عن خشية من عجز أجهزة الأمن وأجهزة الاستخبارات من الفشل في التصدي للإرهاب العابر للقارّات، ودرس باريس مازال ماثلاً للعيان.&
هل يمكن في المستقبل لأجهزة المخابرات الدولية أن تستعين بالمافيا، لمعرفة كيفية تمويل التنظيمات الإرهابية، وكيفية ترويج الأسلحة، وتوصيلها إلى كبرى العواصم في العالم؟ قد يكون الأمر كذلك، بما أن المافيا لها أجهزتها الخاصة، التي تمكنها من التلاعب بكل أجهزة الاستخبارات، إن لم تكن تلك الأجهزة قد تم توظيفها والتلاعب بها، لفائدة هذه الأطراف الإجرامية. الحقيقة أنّ أداء الحكومات الغربية وأداء الولايات المتحدة، في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب العالمي يجعل المراقبين يشككون في جدّية هذه الحكومات، في محاربة الإرهاب. وأكثر النخب الفرنسية عقلانية، أكدت بعد أحداث باريس المؤلمة، أن بلادهم متورطة في دعم الجماعات المتطرفة، والمراقبون الأمريكيون لا ينكرون أن حكومة بلادهم تدعم الجماعات المتطرفة، وتزودها بالسلاح وبالمال. وعليه فإن تطور التنظيمات الإرهابية وتضخمها وانتشارها مثل السرطان في كل دول العالم، لم يأت من فراغ. بل إن هذا الامتداد لا بد أن تقف وراءه أجهزة ضخمة. وبعيداً عن تدخل المافيا في ما يتعلق بمحاربة الدواعش، هل يمكن التساؤل عمّا إن كانت هناك جدّية هذه المرة في التعامل مع هذا الملف؟ الرئيس الأمريكي باراك أوباما، تحدث بلهجة حازمة في مؤتمر دول منطقة الآسيان، وقال سنقتلع الإرهاب وسنوقف عمليات تمويله وسنلاحق قادته. وهذا الكلام يحمل في بواطنه عدة دلالات. ومن أهم هذه الدلالات:
&
هو معرفة مسبقة بكلّ آليات اشتغال هذه التنظيمات، وهو ما يفترض أيضاً أن الولايات المتحدة كانت تغض النظر عن تلك الملفات، ما يؤكد وجودها ضمن دائرة الاتهام.
حزم الولايات المتحدة، لا يأتي من فراغ، فالمتغيرات التي فرضها التدخل الروسي و التقارب الفرنسي الروسي، بعد هجمات باريس، تجعل الولايات المتحدة تخشى على نفسها أن تصبح معزولة بعد أن ينفرط حلفها في محاربة الإرهاب.
فرنسا الجريحة، ستقود الحملة الأوروبية على الدواعش، وهي ستكون أكثر جدية هذه المرة، بعد أن اتخذ الإرهاب من الأراضي الفرنسية، موطئاً لتنفيذ هجماته. علماً أن عدد الفرنسيين المنضمين إلى التنظيمات الإرهابية هو كبير، ويتجاوز 1500 عنصر، وهم قادرون على إحداث اختراقات خطيرة فيما لو قرروا العودة إلى فرنسا.
هناك تشكيك واسع في قدرة أجهزة الاستخبارات على تتبع هؤلاء الإرهابيين، فأن يتمكن عبدالحميد أبو عود المتهم الرئيسي في عملية باريس، من الانتقال بين مواقع القتال في الشرق الأوسط والعواصم الأوروبية، فهذا يمثل فشلاً كبيراً لأجهزة الاستخبارات الأوروبية، ويدلّ على أن شبكة التهريب هي أقوى من كل تلك الأجهزة. وهنا علينا الاعتراف بصحة ما قاله زعيم المافيا الأمريكية.
&
ما يمكن استخلاصه من الأحداث المتسارعة في محاربة الإرهاب، هو وجود تصميم دولي يبدو مختلفاً في ظاهره، على محاربة الإرهاب. وهذا التصميم، قد يعبر عن توافق إرادات، وتقارب أفكار بين قادة العالم. التقارب يظهر في وحدة بريطانية فرنسية، على محاربة الإرهاب، وهذا الحلف سيتعزز لا محالة بقوات ألمانية لن تتخلف في الدفاع عن باريس وعن بقية الأراضي الأوروبية.
&
العالم يقف الآن أمام اختبار الحقيقة، والرأي العام الأوروبي بات يضيق بسياسات حكامه، التي جلبت له الدمار والخراب، وجعلته يعيش تحت وطأة العسكرة. إنّ الأوروبيين لم يتعودوا رؤية جيوشهم تغزو شوارع مدنهم وتفرض عليهم البقاء لساعات في ما يشبه الإقامة الجبرية، وهذا التغيّر الجذري في حياة الأوروبيين، يدفعهم إلى الضغط على حكوماتهم من أجل محاربة فعالة للإرهاب العالمي. وهذه الحكومات تقف الآن بين مطرقة ضغط شعبي لن يسكت على استمرار السياسات الخاطئة، وبين سندان التهديدات الإرهابية التي اتضح أنها ليست مجرّد مزحة، على غرار مزحة مقاومة المافيا للإرهاب.