&أيمـن الـحـمـاد

منذ أن أسقطت المقاتلة التركية طائرة سوخوي الروسية بسبب دخول الأخيرة أراضي الأولى، تكلم كثير من الاستراتيجيين حول العالم عن مآلات هذا الفعل الخطير الذي لم يحدث منذ حوالي خمسين عاماً، واحتمالية أن يؤدي إلى حرب عالمية.

وبالرغم من استبعاد حدوث هذا الأمر من قبل من تحدثوا عن هذه الواقعة، وعلى رأسهم زبينغو برجنسكي، إلا أن مفاعيل هذا الاحتكاك العسكري بين القوتين الضاربتين لا تزال تتداعى، وعواقبه على الجانبين لا يمكن تجاهلها، فالتأثيرات الاقتصادية تلقي بظلالها على الجانبين، والتراشق الكلامي بين القيادتين حاضر في خطابات بوتين وإردوغان، والخشية من تكرار هذا الأمر أو وقوع أخطاء بسبب الحضور الروسي المكثف في سورية يجعل الأمر برمته قابلاً للاشتعال..

الإشكالية أن الأمر لا يتعلق فقط بأنقرة وموسكو، بل إن الناتو كحلف موجه في أساسه إلى روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي مندمج بحكم الأمر الواقع في هذا التجاذب، بل إن ما يقال عن إسقاط الطائرة إنما جاء بأمر من الحلف الأطلسي هي رواية لا يمكن تجاهلها، باعتبار ما قامت به روسيا اعتداء على حدود الناتو، لذا وجب إيقافها عند حدها.

المزعج أن الحلف الأطلسي في واقع الأمر يبدو مكشوفاً في خاصرته الجنوبية، ونقصد الحدود التركية مع الدول الست، التي تدور في فلك موسكو باستثناء العراق الذي تغازله روسيا تحت نظر الأميركيين، عندما أعلنت عن مركز عمليات استخباراتية مع بغداد عشية التدخل الروسي العسكري في سورية، وهو أمر استفز واشنطن، التي أنذرت حكومة بغداد إن هي سمحت للطائرات الروسية القيام بضربات ضد أي أهداف في المجال العراقي دون التنسيق مع أميركا التي تقود تحالفاً دولياً هناك.

إن نظرة عامة تجاه الدول الست التي تحيط بتركيا من جهتها الجنوبية والغربية بدءاً من جورجيا الواقعة تحت نظر روسيا، ثم أذربيجان مروراً بإيران ثم العراق وسورية وأرمينيا التي يجمعها بتركيا عداء تاريخي، يجعلنا ندرك الحاجة الماسة للناتو لاستقطاب تلك الدول بحيث تغدو أكثر مواءمة وانسجاماً مع الحلف الأطلسي.. ولعل استمالة إيران من خلال اتفاق نووي مع الغرب يصب في هذا الهدف، وكذلك جورجيا وأرمينيا اللتان يحاول الاتحاد الأوروبي قطع طريق موسكو نحوهما، إلا أن الأخيرة أعلنت قبل أيام تعزيز قاعدتها العسكرية في يرفان الأرمنية، في إشارة إلى رغبة روسية عارمة تثبيت دعائم وجودها في منطقة هي الأكثر ضعفاً بالنسبة للناتو الذي يفرض سيطرة في أوروبا الشرقية حيث المعاقل التاريخية للسوفييت في بولندا وجمهوريات يوغسلافيا السابقة.

وأمام هذا الضغط الروسي يبدو الناتو والاتحاد الأوروبي على حد سواء معنيين بتدعيم وتأهيل الدول التي تربطها وتركيا كعضو فاعل في الحلف الأطلسي حدود برية من خلال إغرائها اقتصادياً، ولعل دعوات الرئيس هولاند الأخيرة التقارب مع الأرمنيين ذات دلالة سياسية، وكذلك دعم تركيا الأخير من قبل الاتحاد الأوروبي من أجل ضم أنقرة إليه بعد توقف المفاوضات بهذا الشأن جاء نتيجة إدراك الأوروبيين بأهمية تركيا في مواجهة الروس الآخذين بالحضور على المستويات العسكرية بعد أن كان حضورهم جنوب الناتو باهتاً أو مهادناً إلى حد ما، الأهم من ذلك أن انخراط الأوروبيين في الدول الست سياسياً واقتصادياً على وجه الخصوص من خلال تقديم حوافز تجارية من جهة، ودعم استقرارها السياسي من جهة أخرى في سورية والعراق بالتعاون مع الدول المؤثرة عربياً، سينعكس إيجاباً على الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي معاً، ويقلص بالتالي من إمكانية اندلاع أي مواجهات أو قيام أي استفزازات روسية في المستقبل، وفي هذا الأمر يمكن القول إن الرد الروسي على تدخل الناتو في أوكرانيا جاء من خلال البوابة السورية مستغلاً ضعفها كدولة تحاذي حدود الحلف الأطلسي.