عادل درويش
هذا العام يصادف المولد النبوي الشريف أعياد الميلاد في العالم المسيحي الغربي.
مناسبتان دينيتان أخذتا الطابع الاجتماعي فالاحتفالي بدرجات متفاوتة في ثقافات البلدان. المولد في مصر احتفالي شعبي يأخذ طابع المهرجان، بعكس بلدان أخرى. بلدان غربية يؤكد دستورها على العلمانية المدنية ويوم الكريسماس تشتغل المواصلات والمحال، بينما تتعطل في بريطانيا، فالدولة والبرلمان وأجهزة الحكومة في عطلة رسمية ما بين 24 - 27 ديسمبر (كانون الأول).
شوارع لندن والمدن لشهر كامل تكتسي بالأنوار والحيل الضوئية وأشجار أعياد الميلاد والمبالغة في الزينة.. المنظر مبهج والتكاليف باهظة.
المحلات الكبرى والشركات والأعمال التجارية والمطاعم وحتى أصحاب المباني السكنية في كل شارع تشترك في صندوق مخصص لهذه الزينات.
بديهي أن محلات التجارة ليست مؤسسات خيرية. فالزينات والبهجة ترسل إشارات إلى لاشعور المستهلكين فينفقون المليارات في الاحتفال وشراء الهدايا، فجزء من الزينة هو استثمار كالإعلان والعلاقات العامة.
رجال الدين، سواء في البلدان الإسلامية أو المسيحية ينتقدون ظاهرة تغلب المظاهر المادية والكرنفالية على جوهر الموسم وهو الجانب الروحاني سواء في مولد الرسول أو ميلاد المسيح أو أعياد كالفطر أو شهر رمضان.
هناك مؤسسات تنفق على الزينة بلا عائد مادي، كالمستشفيات والمدارس. مساء الثلاثاء دعانا رئيس الوزراء ديفيد كاميرون كالمعتاد لحفل أعياد الميلاد، والأربعاء كنا ضيوف زعيم المعارضة جيرمي كوربن، وقبلها حفل وزير المالية جورج أوزبورن التقليدي ليوزع الهدايا على أطفال الصحافيين.
الربح ليس دافعًا، فالصحافيون مستهلكون مهلكون لا منفقون، لكنها تقاليد اجتماعية متراكمة في النسيج الثقافي - الاجتماعي (sociocultural) للأفراد والأسرة والمجتمع.
مشهد الأطفال يحتفلون بالأعياد، يتوقعون الهدايا في حالة الكريسماس في الغرب، والملابس الجديدة والهدايا النقدية في الأعياد الإسلامية (تعرف بالعيدية في بلدان كمصر وكانت نقدا فضيا في الماضي) دائما ما يضع الابتسامة على وجوه أشد رجال الدين انتقادا لتغلب الجانب المادي على الجانب الروحي في هذه المناسبات. فبراءة الأطفال وسعادتهم ركن أساسي في كل الأديان سواء الإبراهيمية (السماوية) أو الفلسفية.
الأطفال يشبون على تقاليد إيجابية تبدأ بالبهجة وتنمية إبداع التخيل. الطفل يكتب أمنيته لـ«بابا نويل» ويضعها في نار المدفأة ليلة الكريسماس ويحلم أنه سيهبط من المدخنة بالهدايا. الطفل يتعلم تقاليد الشكر مقابل الهدية فيترك «مشروب بابا نويل» وجزرة لـ«رودولف» الوعل الذي يجذب زحافة الجليد السحرية التي يعتقد الأطفال أن بابا نويل يلف العالم كله بها لتوزيع الهدايا على الأولاد والبنات الذين حظوا برضاء الآباء والمعلمين.
هؤلاء الأطفال يصبحون آباء وأمهات، وبدورهم يواصلون تغذية الحلم في مخيلة أطفالهم، ويساهمون في استمرارية الثقافة الاجتماعية التي تنفق الملايين في هذه المناسبات التي كانت في الأصل دينية لكنها أصبحت ركنًا أساسيًا في الاقتصاد الاستهلاكي وغيابها يظهر فجوة هائلة في دخل الخزانة من ضرائب المبيعات وضرائب أرباح الشركات وضرائب العاملين في الوظائف المرتبطة بها.
تقاليد لم تتغير كتعطل كل المواصلات وتحول مدن كلندن إلى شوارع أشباح فلا أحد يخرج من بيته. الأسرة تلتقي في مأدبة غداء سنوية والأولاد والأحفاد. حتى العاملون في بلدان في أقصى بقاع الأرض يأتون لقضاء العطلة مع الأبوين أو الجدين. في الثالثة تماما بتوقيت غرينتش تتجه الأنظار إلى شاشات التلفزيون وينصت الجميع في اهتمام للخطاب السنوي الذي تلقيه الملكة إليزابيث للمملكة المتحدة وشعوب الكومنولث والعالم، ودائما الخطاب ملخص لأحداث العالم، وتحتوى رسالة إيجابية وتمنيات لشعوب الأرض بالسلام، فالبريطانيون وشعوب الكومنولث ينظرون للملكة طوال 62 عامًا كالأم الكبرى للأسرة العالمية.
الحديث عن التقاليد، بمفهومها الإيجابي، وثباتها كطوق نجاة وحزام أمان في عالم مضطرب، التغيير فيه نادرًا ما يأتي بالخير، هو المقصود من المقال.
وإذا تحدثت لجيل الأجداد الذين تجاوزوا التسعين من العمر عند زيارتهم للندن مثلاً في هذه المواسم تسمع ترديدهم ملاحظة أن لندن في المواسم والزينات والأضواء كتقاليد لم تتغير عند زيارتهم الأولى قبل سبعة أو ثمانية عقود، فقط ما تغير هو التكنولوجيا والأزياء والموسيقى الصاخبة وتصميم السيارات، لكن التقاليد نفسها لم تتغير، الحكاية نفسها سمعتها من أمي وقبلها من جدي.
في كل بحثي لإعداد أي من كتبي كمؤرخ معاصر، راقبت دائمًا التقاليد في البلدان في احتفالات المناسبات العامة. في بريطانيا أعياد الميلاد، أو افتتاح الملكة للبرلمان، أو استقبال حرسها الملكي رئيس دولة أجنبية، أو طقوس شاي بعد الظهر، أو مسرحية أطفال المدارس تحكي قصة السيدة العذراء مريم وميلاد المسيح، أو الوقوف في طابور انتظار الترام أو الباص، وغيرها من مئات التفاصيل الصغيرة والبسيطة في الحياة اليومية للبريطانيين، تشكل في مجموعها وتراكماتها على مر العصور، الخصوصية الثقافية والإنسانية التي تتكون منها ملامح ما يعرف بالمجتمع.
التقاليد بمفهومها الإيجابي لا السلبي (يخلط مثقفون عرب بين التقاليد الثابتة والتقليعات التي تصبح عادات يحاكيها أفراد المجتمع) هي قوة للمجتمع، تحافظ على تماسكه وتمكنه من تجاوز محن وتحديات تعصف بمجتمعات أخرى.
بريطانيا تتعرض لهجمات إرهابية. في الحرب الثانية فقدت جيشها في دنكرك فوقفت وحدها تدافع عن الإنسانية أمام الهمجية النازية التي اجتاحت أوروبا، والتقاليد كانت قوتها في تجاوز المحن. بريطانيا غيرت نظامها السياسي مرة واحدة مؤقتا في ألف عام عندما اجتاحت المجتمع نزلة ثورية فحرب أهلية انتهت بإعدام تشارلز الأول عام 1649 وساعدت التقاليد الأمة على تجاوز الخطأ التاريخي الجسيم فأعادت الملكية بتولي تشارلز الثاني العرش في 1661.
في حياتي كبالغ شهدت انهيار ما ظننت أنه تقاليد في أقدم أمم الأرض، مصر، ودخول موضات وعادات أجنبية لتصبح صبغة سائدة تغير لونها ثلاث مرات في 55 عاما.
متابعة أرشيف «شريط الأنباء» (نشرة أخبار مصورة كانت تعرض في دور السينما قبل ظهور التلفزيون)، ناهيك بأفلام السينما المصرية ما بين 1930 - 1968، ثم أرشيف أخبار التلفزيون المصري وصور نشاط المجتمع في العقود الأربعة التالية، تجعلك تدرك غياب استمرارية التقاليد، سواء في مناسبات رسمية وبروتوكولات دولة وخطابات رؤساء الحكومات، أو حفلات زواج، أو حفلات التخرج الجامعية أو الأزياء (للجنسين) أو حتى جلسات البرلمان. ليس فقط احتضان القبح الذي أزاح الجمال (من المعمار إلى الملبس إلى وسائل المواصلات إلى المصالح الحكومية) بل غياب ما يمكن أن نعرفه بتقاليد متفق عليها في بلد فيه دستور مكتوب بعكس ثباتها واستمراريتها في بريطانيا التي ليس فيها دستور أو قانون أساسي مكتوب.
&
التعليقات