يوسف الديني

هناك استخفاف دولي بمشكلة «داعش» مردّه إلى عوامل كثيرة، يأتي على رأسها حالة الإهمال التي تعيشها الدبلوماسية الأميركية، والتراجع الكبير بسبب سياسات الرئيس أوباما التحفظية، التي يريد من خلالها الإبقاء على وضعية الانكماش للسياسة الخارجية الأميركية، ويخرج من المشهد الرئاسي بمنجز «عدم الحرب»، في حين أن هذا السلوك الذرائعي في ترسيخ مفهوم سلم غير حقيقي قد يرسخ صخرة الإرهاب في المنطقة والعالم إلى آماد طويلة لا أحد يدرك نهاياتها.


وبإزاء البطء الأميركي في حل مشكلة الإرهاب وتنظيم داعش والذي يعترف به حتى الباحثون الأميركيون، هناك تدخلات جزئية في ملف الحرب على الإرهاب تزيده تعقيدًا، وتعمق المشكلة، لنكتشف في نهاية المطاف أنه تدخل مصلحي، كما هو الحال مع المقاربة الروسية والتركية والإيرانية لملف الإرهاب، وتمدد تنظيم داعش وتهديده لكل دول المنطقة، بل وانتقاله إلى المرحلة العالمية باستهداف مناطق نائية بغية كسب الشعبية والأنصار والتمويل، وجر المنطقة إلى حرب كبرى، والسؤال: هل يتصرف التنظيم بشكل استراتيجي، أم وفق قراءته في ردود الفعل؟! والحال أن سلوك «داعش» يجمع بين الأمرين، وذلك منذ نشأته وحتى انتقاله للمرحلة الحالية في مناوشات كوادره وخلاياه في قلب أوروبا وأميركا، وصولاً إلى إسرائيل، حيث أعلنت الأخيرة انضمام أحد مجنديها من أصول عربية إلى تنظيم داعش، فهو يتصرف كميليشيا حرب وفق رد الفعل تجاهه في أغلب الجبهات في مناطق التوتر بسوريا والعراق، ويتصرف بمنطق الدولة في عملياته الإقليمية كما هو الحال في استهدافه لتركيا والخليج وسيناء مصر والأردن، وهكذا الحال في حضوره في شمال أفريقيا، أو عملياته الأوروبية التي تحمل رسائل مغايرة مفادها أن أي انتقال للحرب العلنية البرية عليه يعني إحراق العواصم الأوروبية بالمجندين الجاهزين.


السلوك الداعشي حوّل التنظيم إلى طرف سياسي فاعل وليس مجرد نتيجة إهمال للمجتمع الدولي، وفي هذا السياق يؤكد مايكل ويس مؤلف كتاب «داعش» من داخل جيش الرعب أن عدم وجود استراتيجية حقيقية للحرب على التنظيم حوّله إلى دولة، وأي حديث غير هذا استخفاف بالواقع هناك، وأكد في شهادته أمام الكونغرس أن هناك استخفافًا مهينًا بالتنظيم، في حين أنه يتجه إلى دولة تضم أكثر تجمع إرهابي مافيوي وحشية في التاريخ، وربما محاربة هذا التنظيم بعد حالة الإهمال من قبل الدول الكبرى ستكلفنا جيلاً بأكمله.


الأكيد أن التنظيم لا يتحرك بشكل عشوائي، وإنما وفق استراتيجية سياسية وعسكرية واضحة ومعقدة، لا سيما بعد أن بات خبيرًا بالأوضاع الميدانية في المنطقة، كما استطاعت شبكته الإعلامية الواسعة عبر الإنترنت تجنيد المزيد من الكوادر من مناطق غير متوقعة، وبأشخاص أكفاء علميًا اختاروا مجددًا عدمية «داعش» على أحوال العالم المتردية التي تتفاقم سوءًا، فأصبحت من جهة طرائق التجنيد والتجييش أكثر تنوعًا، وهو ما سيزيد العبء على الإجراءات الأمنية، وعلى موجة الإسلاموفوبيا، وعلى العواصم العربية والعالمية التي ستكون مجندة في حماية الداخل أكثر من الدخول في حلف غير متجانس للحرب على الإرهاب الذي يختلف الفرقاء في تحديد مفهومه وأولويات الحرب عليه.


وبإزاء التحالفات الصغيرة التي يجترحها اللاعبون السياسيون الآن في ملف الإرهاب وحتى تنظيم داعش نفسه الذي يحاول الوصول إلى مناطق يزاحم فيها تنظيم القاعدة، بل حتى في أفغانستان، تفيد التقارير أن تمدد تنظيم داعش بدأ يتجاوز حركة طالبان التي تعاني تراجعًا كبيرًا خارج مناطقها، بسبب حالة التجييش الداعشي والدعاية تجاه الشيعة، يتأكد على دول الاعتدال بقيادة السعودية لعب دور مباشر ورئيسي في ملف الحرب على الإرهاب، ولو بشكل جزئي في حال عدم وجود إجماع وتحرّك دولي جادّ حتى الآن.


قوة «داعش» ليست عسكرية أبدًا، وإن كان قد بلغ التنظيم مستوى لا يستهان به من التجنيد ووفرة السلاح، لا سيما بعد استيلائه على مخازن عراقية كبرى خلفتها عقود من الحروب، والاستثمار في التسليح الذي عاشته المنطقة. قوة «داعش» في استثماره حالة الغضب من الواقع الحالي، بدءًا بالسياسات الدولية وصولاً إلى إهمال بؤر التوتر والملفات العالقة، وعلى رأسها الحالة السورية، وقبلها ما نتج من التدخل في العراق، كما أن تماسكه التنظيمي يعزى لأسباب كثيرة، أبرزها دخول أجيال ودماء جديدة في الجسد الإرهابي الذي كان يتكون من بناء تقليدي يشمل الجانب العقائدي والشعارات والحماسة الدينية والتشدد، إضافة إلى الفكرة العنفية المسيطرة على الفرد، لكن إرهاب «داعش» اليوم يستقطب الأطباء والمهندسين، ولا يكترث كثيرًا بحالة التدين ما دام الولاء لفكرة الدولة، في محاولة لاستقطاب كوادر غربية وأجانب لا يحرّكهم الدافع الديني فحسب.


الاعتماد على قوى محلية صغيرة ودعمها من بعيد بالمال والسلاح لا يحل المشكلة، فالأكراد أو قوات البيشمركة في حال تفوقهم العسكري، وهو غير متوقع في الأوضاع الحالية، غاية ما يطمحون إليه هو طرد التنظيم من مناطقهم، وليس حل مشكلة الإرهاب المسلح في المنطقة.


المشكلة اليوم ليست في إدانة الإرهاب أو تجريمه أو في الحملات التحذيرية منه أو الشره الإعلامي في اقتناص غرائب وحشيته، وإنما في استراتيجيات ناجحة في مواجهته عسكريًا وفكريًا ومجتمعيًا، تبدأ بإدراك حقيقة ما آلت إليه حالة العنف في المنطقة بما ينذر بأهوال جسيمة في مستقبل المنطقة.
&