يوسف الديني

مع قناعتي الراسخة بأن «داعش» منتج مشوه هجين ولد من حالة الإهمال للتطرف والعنف في المنطقة عقب خرائب الربيع العربي، إلا أن بذرته الأولى ستظل موجودة تنتظر الرحم الذي تتخلق فيه، كما كان الحال مع ولادة أزمة العراق والتدخل الأميركي الذي أفضى في النهاية إلى خلق حالة فراغ سياسي كبير، وابتلاع وكلاء إيران في العراق لمفاصل الدولة.


وذات الحال مع الولادة الثانية في سوريا مع إهمال المجتمع الدولي لجرائم نظام الأسد تجاه شعبه، واستغلاله لورقة «المجموعات الإرهابية» منذ البداية لتكرار ما حدث في العراق عبر فتح الأرض لكل من هب ودبّ من المجموعات المقاتلة التي من السهل تجييشها وتعبئتها، فمجرد انبعاث جبهة قتال في أي مكان بالعالم تتقاطر الكوادر العنفية لتكوين كتلة من المسلحين المؤمنين بآيديولوجية التغيير المسلح، وعادة ما تتحول إلى هذه الكتل بعد أن تستقر على الأرض وتجد طريقها للتمويل والتنظيم وإدارة أفرادها إلى طرف وكارت سياسي، يمكن الاستثمار فيه جيدًا وتحويله إلى قضية دولية مؤرقة للعالم في ظل تراكم الأعمال الإرهابية التي تزيد في قوة الطرف المضاد كما يحدث لـ«داعش» اليوم.


بقاء تنظيم داعش في حدوده الدنيا أمر ملح لمن يستثمرون فيه بدءًا من إيران، ومرورًا بالحكومة العراقية إلى نظام الأسد، فوجود التنظيم يعطي توازنًا في القوى المتصارعة، وبالتالي يعيد بعث الفصائل الشيعية والجماعات المسلحة إلى العمل والدعم وإعادة رص الصفوف لمحاربة الإرهاب دون القضاء عليه، وفي ظل غياب «داعش» سيصبح من الخطر الكبير بقاء هذه الميليشيات الشيعية التي تنفرد بالمشهد في العراق وتقطع الطريق على أي محاولة لتسليح جماعات كردية أو سنية، كما أنها في خضم حربها ضد «داعش» تتحدث وتعمل على الأرض بمنطق الدولة، وهناك تقارير أميركية كثيرة تحدثت عن تسلم الميليشيات الشيعية لمركز قيادة الحرب «مركز العمليات المشتركة الموحدة»، الذي يقوم بالتنسيق مع التحالف بهدف المشاركة في المعلومات الاستخباراتية بين الميليشيات الشيعية، وروسيا، وإيران، و«حزب الله» اللبناني، ونظام الأسد.


ومن هنا، يمكن فهم سياق الرفض المتكرر من قبل الحكومة العراقية إلى عودة القوات الخاصة الأميركية لمساعدة القوّات العراقية وقوّات البيشمركة الكردية، والذي وجد معارضة شديدة من قبل فيلق بدر وباقي الأحزاب المدعومة من إيران، وهو ما انعكس على تصريح رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي صرح بأنه: «ليست هناك حاجة إلى قوات عسكرية أجنبية على الأرض للمحاربة. فلا يمكن نشر أي دعم ولا القيام بأي عمليات خاصة مماثلة في العراق إلا بعد موافقة الحكومة العراقية»، وأكد أنّ الحكومة العراقية «ستتعامل مع وجود قوّات أجنبية على أرض العراق وكأنّ وجودها هو فعل عدائي وانتهاك لسيادة العراق الوطنية».


إن الحقيقة الغائبة في تفسير تمدد وبقاء تنظيم داعش لا تعود إلى قوة التنظيم على الأرض بشكل حقيقي، ولكن بسبب الاهتمام بأولوية بقائه كعدو مطارد وملاحق بعيدًا عن المناطق المرتخية التي تسيطر عليها الميليشيات الشيعية، ويدرك قادة «داعش» هذا الاستثمار في بقائهم، فلا يستهدفون المناطق ذات الأغلبية الشيعية في العراق ولا المناطق الخاضعة للنظام قدر اكتساحهم لمنافسيهم من الجماعات التي تحارب الأسد، في رغبة ملحّة لابتلاع أكبر قدر من المناطق والسيطرة عليها دون اكتراث للسعي الحثيث من قبل التنظيمات الشيعية لابتلاع مؤسسات الدولة والهيمنة على القطاعات العسكرية، وتحجيم كل الفصائل الأخرى التي تحارب «داعش» بدعم من الولايات المتحدة.


هناك الآن إعادة تقييم وفهم لصعود التنظيم من قبل باحثين ومختصين في قضايا الإرهاب، في ظل تتبع المستفيدين من بقائه بعد أن أضحت تبريرات عدم خوض الحرب عليه لا تقنع أحدًا، وواحدة من إشكاليات الحرب على الإرهاب هو أنه كلما طالت مدة الأزمة خلقت منتفعين جددًا يستثمرون فيما يسمى الآن «اقتصادات النزاعات المسلحة»، فهناك العشرات من الشركات الأميركية التي ارتفعت أسهمها مع تضخم أعمال «داعش» وتمدد التنظيم، وأغلبها يعمل في قطاع أنظمة الدفاع والأمان، كما هو الحال مع الشركات البريطانية وأبرزها عملاق أنظمة الدفاع البريطاني «BAE Systems»، وهو ما يشير إلى تبدل أسلوب الحرب من التسليح والحصول على الذخيرة، إلى امتلاك أنظمة دفاع حديثة.


وفي السياق ذاته، فإن طول أمد النزاعات والحروب يفضي بالضرورة إلى ارتفاع العقود والعوائد من مشاريع إعادة الإعمار (حرب العراق 2003 استمرت أقل من شهر، لكن تكلفة إعادة الإعمار للبنى التحتية بلغت 220.21 مليار دولار وفقًا لتقرير نشره المحامي الأميركي ستيوارت بوين، الذي عمل مفتشًا ومشرفًا عامًا على عملية إعادة تعمير العراق).


الإرهاب اليوم ينتقل من حيّز الإدانة والتجريم، إلى محاولة الاستثمار السياسي في ظل فشل القضاء عليه، فالنفط الرخيص المهرب الذي يبيعه تنظيم داعش (بمعدل مليون دولار يوميًا) يحول الإرهاب من أزمة طارئة، إلى كارثة مستقرة ستعاني المنطقة من تأثيراتها الفكرية والاجتماعية لعقود قادمة.
&