&كيف نقبل الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله باستمرار؟
&

&عزيز مشواط    

تشكل شعوب العالم العربي الإسلامي في الوقت الراهن أحد الشعوب الأكثر التصاقا بماضيها، في نفس الوقت الذي تواجه فيه تحدي التحديث والتقدم، الذي يمثل الغرب نموذجهما. يقول عبد الله العروي في كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة": "منذ 75 سنة والعرب يطرحون نفس السؤال: من هو الآخر؟ ومن هو الأنا"؟ وإذا كان صاحب مفهوم العقل قد طرح السؤال أواخر الستينيات، فإن الملاحِظ لحركية المشهد العربي الفكري والثقافي لا بد أن يكتشف استمرار حضور نفس الهواجس وإن اختلفت صيغها، ما بين حافر في العقل العربي وناقد له.

يقدم العالم العربي للملاحِظ الأجنبي صورة حية لمجموعة من التناقضات أمام عنف التغيير المفروض بقوة تكنولوجية وحضارية واقتصادية تروج لنموذج النجاح الغربي المدعوم بإيمان عميق بالتفوق. ولعل مأثورة عصام العطار التالية خير معبر عن هواجس جيل بأكمله. يقول "كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله باستمرار لا بد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال… وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد". فما بين انجذاب كلي إلى ماض مجيد ورهانات التحديث تختلط الدعوات بالصراخ، بالعواطف اللاعقلانية وغليان اجتماعي وسياسي. إنها ملامح أزمة هوية عميقة.


لا بد من العودة إلى الانفجار الحداثي الذي رافق الاستعمار ابتداء من القرن التاسع عشر، حيث واجه المسلمون أسئلة هوياتية عميقة. فأصبح مفهوم الخصوصية المؤسس على قدسية اللغة والتاريخ والدين المشتركين موضع نقاش منذ النصف الثاني من القرن وتعمم بعد ذلك على امتداد العالم العربي الإسلامي. وقد أفرز هذا الاختلال مجموعة من الاستتباعات أهمها على الإطلاق العداء الذي انتصب بين الوطنيين والإسلاميين عند بداية القرن العشرين حيث اعتبرت النزعة الوطنية نقيضا لروح الدين، ولم تتردد في وصفها بالمؤامرة الغربية التي تمس وحدة الأمة. غير أن المسافة الموضوعية بين المثالي والواقعي أفرزت فكرة الإصلاح. ومن ثم دعا مفكرو الإصلاح إلى العودة إلى السلف الصالح وإلى التقاليد الصافية للدين.

كما لم يحدث قط على امتداد تاريخ الدولة الإسلامية، تطبيق الليبرالية السياسية حيث ظلت السلطة تقريبا في يد حكم مطلق وهو ما يناقض جذريا الصورة المثالية لدين يدعو إلى العدالة والمساواة. وحيث ما وجدت مصلحة الجماعة فثمة شرع الله. والمسلمون بأجمعهم لم يستطيعوا التخلص من ذلك.

أما الملاحظة الثالثة فهي غرابة مدى الحيوية الحاسمة للانتماء إلى الأمة الإسلامية المتصورة كوحدة في حين إن الحقيقة التاريخية تكذب هذه الأطروحة بشكل سافر. مبدئيا كل المسلمين أخوة في الدين، مهما كان انتماؤهم الاثني، لأن منهج الإسلام العالمي يتجاهل الحدود الوطنية. ولحماية الذات من كل تشرذم وانقسامات طالما لجأت الأدبيات الإسلامية إلى اتهام الغير للرد على الواقع المتشرذم للأمة الإسلامية، فتعزى الانقسامات إلى عدو محتمل يكون سبب المؤامرة المحبوكة "الأعداء-الكفار" الذين يرمون إلى تقزيم الدين من الداخل، وهذا ما يمكن أن يفسر الحذر الذي تقابل به أي محاولة تجديدية، لأن "الاسلام فقد ثقافته الأصلية إلى حد بعيد بفعل الافتراءات الكاذبة ذات الأصول الخارجية".

ومن أجل الهدف نفسه، أي حماية الذات، يعتبر وضع وحدة الأمة في خطر خطيئة كبرى لا يمكن التساهل فيها، ويرمى هذا بالضرورة إلى الحفاظ على الانسجام الاجتماعي، حيث يحتل العنصر العربي في الأيديولوجية الإسلامية وضعية خاصة في العالم الإسلامي، فالخليفة يجب أن يكون عربيا، واللغة العربية تبقى مقدسة، لأنها لغة الوحي الذي لا يمكن قراءته في غير لغته الأصلية؛ إنها اللغة التي اختارها الله لمخاطبة الجنس البشري.

صحيح أن الساسة حاولوا أمام عجز الإصلاح الذي قاده رواد التقليدية ملء الفراغ، حيث شكلوا المؤسسين الفعليين لاستقلال الدول العربية، فمزجوا بين ثنائية العروبة والإسلام مستعيرين جهازا مفاهيميا مستمدا من التراث، غير أن نموذجهم السياسي والاجتماعي ظل مستمدا من النزعة اللائكية والعقلانية الأوروبية.

إلا أن الاضطرابات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والحرب العربية الإسرائيلية أسهمت في إحداث تغيرات فجائية وجذرية في انبثاق حركات التحرر حيث شكل مفهوم الثورة أحد المفاهيم العامة التي طبعت المرحلة.

وقد طرحت على النزعة العروبية مجموعة من التحديات تمثلت في هذا التحدي المزدوج الذي يمثله الغرب من جهة والبنيات التقليدية المهيمنة من جهة أخرى. فسادت نزعة مناوئة للنموذج الغربي باسم الأصالة والخصوصية والقيم المسماة أصيلة، كما شهدت المرحلة نوعا من التماهي بين العروبة والإسلام. وهو اتجاه شمل حتى بعض المنظرين المسيحيين الذين أكدوا على الأبعاد الإسلامية للشخصية العربية، معتبرين أنها موروث مشترك بين أفراد الأمة.

يعرف العالم العربي الإسلامي حاليا عديدا من التغيرات تمس العقلية السائدة يرافقها قلق حاسم ناتج عن تعدد الإجابات المقترحة للرد على إكراهات وضعية فقدان الهوية، ويمكن تلخيص ذلك في التناقض بين الأصالة والمعاصرة الثورية. ولقد حاول التيار الأصولي تحقيق هذه الإجابة من خلال الدعوة إلى عودة الأمة العربية إلى تطبيق الشرع الإسلامي مستمدا من السلف الصالح نموذج العمل والتأهيل.

تلك هي بعض سمات المجتمعات العربية الإسلامية الباحثة عن استقرار هوياتي تأوي إليه عندما تضيع كل النماذج المسماة مرجعية وهي السمات التي لا يمكن فهمها في انفصال عن بنية شديدة التعقيد من العوامل التاريخية والسياسية والدينية.