محمد خروب

لا يغيّر اعلان موسكو (يوم أمس) أنها تعارض سباقاً «جديداً» على التسلح مع واشنطن، كثيراً في مشهد التوتر المتصاعد بين البلدين، واتجاهه نحو العسكرة، بكل ما يحمله هذا الخيار المدمّر (كما يجب وصفه) من مخاطِر على الأمن والسلم الدوليين، اللذين هما جزء اساس في هجمة واشنطن الدبلوماسية الامبريالية المتواصلة المصحوبة على الدوام التهديد باستخدام القوة تحت مزاعم متهافتة، لم تثبت صدقيتها أو ترجمتها على ارض الواقع، مثل نشر الديمقراطية وحماية حقوق الانسان وبناء الدول، على النحو الذي شهدنا كارِثيته في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وغيرها من الوقائع والحروب العدوانية التي شنّتها الدولة الامبريالية الاولى، على معظم دول العالم في آسيا واميركا اللاتينية وافريقيا وخصوصاً في الشرق الاوسط، وتجلّت في ابهى عدوانيتها التوسعية في دول شرق اوروبا التي كانت جزءاً من منظومة الدول الاشتراكية وحلف وارسو، الذي تحاول واشنطن عبر الناتو (حلف شمال الاطلسي) وراثته وإحكام طوق الحصار والعزلة على روسيا، التي نهضت من كبوتها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً بعد «انعتاق» روسيا من حكم بوريس يلتسين المافيوي، الذي كاد ان يحول روسيا الى دولة من دول العالم الثالث، لولا بروز فلاديمير بوتين في «الهزيع» الاخير من ليل يلتسين واستدراكه الأمور على نحو سريع وناجع (وجراحي مؤلم) حتى تستقيم الأمور في تلك البلاد الشاسعة المساحة والغنية الثروات وذات التاريخ الحافل والكبرياء القومي، الذي كان حجر الزاوية في برنامج بوتين لاستعادة مكانة روسيا في اوروبا وخصوصاً في المشهد الدولي، على نحو أربك ان لم نقل أحبط خطط الامبريالية الاميركية التي ظنت ان القرن الجديد (الحادي والعشرون) سيكون قرناً اميركياً بامتياز، فراحت تضع الخطط الاستراتيجية للهيمنة على العالم ووضع أسس ومحددات النظام الدولي الجديد «بقيادتها المنفردة»، لكنها وقعت أسيرة عدوانيتها وجشعها الاستعماري واستعلائها، فانزلقت الى حروب عبثية مكلفة فأرهقتها واسهمت في ارتفاع مديونيتها وتراجع مكانتها وتآكل صورتها ونفوذها في العالم أجمع، ثم جاءت الازمات العقارية والاقتصادية والمالية المتلاحقة التي ضربتها (والدول الرأسمالية الاخرى) لتضعها أمام ساعة الحقيقة، لكن المُجمّع الصناعي العسكري البترولي الذي يتحكم في قرارها السياسي ويوجه خطى ساكن البيت الابيض وخصوصاً نواب وشيوخ الكابيتول هيل في واشنطن، لم يتراجع عن خططه التوسعية وحروبه العدوانية للإبقاء على الاسواق الاستهلاكية وبيع المزيد من السلاح الى الدول التي اوقعتها المؤامرات الاميركية (وصنائعها في العالم وخصوصاً في المنطقة العربية) في حروب أهلية واخرى خارجية وأبقتها اسيرة ازمات لا تنتهي, اقتصادية واجتماعية وخصوصاً طائفية ومذهبية وعرقية, ناهيك عن رغبتها باستمرار تحكمها في الذهب الاسود انتاجاً وتسعيراً وتسويقاً، وضمن ذلك الإضرار بقطاعات الاقتصاد الروسي المعتمدة على النفط.

هل قلنا روسيا؟

نعم.. فالمواجهة الاميركية الروسية قائمة في اكثر من ساحة وميدان, ولم تكن ازمة اوكرانيا سوى «النقطة» التي طفح بعدها كوب العلاقات المتوترة بين موسكو وواشنطن في اكثر من ملف وقضية, سواء في سوريا أم في ليبيا (بعد قراري مجلس الامن 1970 و1973 اللذين استغلهما الغرب الاستعماري لغزو ليبيا واسقاط نظام القذافي وابعاد روسيا عنها) وسبقتها بالطبع ازمة جورجيا (اوسيتيا الجنوبية وابخازيا) فضلاً عن «الصراع» حول خطوط الغاز والنفط في بحر قزوين واذربيجان, ودائماً وابداً في تمدد حلف شمال الاطلسي شرقاً لتطويق روسيا وتحجيم دورها الاقليمي والدولي, بل والنظر اليها كدولة «عادية» على النحو الذي لخّصه اوباما في احد تصريحاته الاكثر استفزازاً واستهتاراً بروسيا عندما قال باستهانة واضحة بأن روسيا «ليست دولة عظمى ولا حتى دولة كبرى بل هي مجرد دولة عادية».

يدرك بوتين ان هذا هو الهدف الرئيس للولايات المتحدة الاميركية, سواء كان رئيسها ديمقراطياً ام جمهورياً, وهو لذلك يُولي المؤسسة العسكرية الروسية بأذرعتها واسلحتها المختلفة المزيد من العناية والدعم والتمويل ويضع خطط التحديث على رأس اولوياته, ولهذا لم تكن مسألة التهديدات بنشر صواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى التي اندلعت اخيراً حولها سجالات بين البلدين سوى احدى تجليات الصراع الآخذ في الاحتدام تحت مزاعم خرق اتفاقات تقليص هذا النوع من الاسلحة النووية التي تمت بين الاتحاد السوفياتي السابق واميركا.. وخصوصاً في ظل التهديدات الاميركية بنشر وتخزين اسلحة تكتيكية واستراتيجية في دول شرق اوروبا الاطلسية وخصوصاً «بولندا», ولهذا جاء تصريح الرئيس الروسي بنشر (40) صاروخاً جديداً عابراً للقارات بحلول نهاية السنة, بمثابة رسالة تستبطن قضايا عديدة, على واشنطن ادراك معانيها قبل المضي قدماً في خطتها التي تهدد أمن روسيا ومصالحها الاستراتيجية, الامر الذي دفعه (بوتين) ايضاً الى ابداء «ارتياحه» لتحسين القدرات العسكرية للقوات الجوية والاسطول الروسي, كاشفاً عن انها ستكون قادرة على مقاومة انظمة الدفاعات الجوية الاكثر تطوراً وان هناك غواصة جديدة لاطلاق رؤوس نووية باسم «فلاديمير مونوماخ» ستوضع في الخدمة نهاية السنة.

هل بدأ سباق تسلح جديد فعلاً؟ أم انها مجرد تهديدات لردع الطرف الآخر؟

... الايام ستقول.