عمار علي حسن

ما فرضته العولمة قسراً أو بالتراضي، نال كثيراً من المفهوم التقليدي لسيادة الدول، إذ لم يعد بمقدور الأخيرة أن تدعي أن لها حدوداً تمنع تدفق السلع والمعلومات. ولم يعد بوسع أي حكومة أن تعزل البلد الذي تديره عن العالم. ويزداد هذا التصور رسوخاً حال تأسسه على الأفكار التي ساقها عالم السياسة «ميرفن فروست»، ومفادها أن هناك فرقا بين «الحقوق المدنية» و«حقوق المواطنة»، وأن «الفرد يكون مواطناً في المجتمع الوطني المتمتع بالسيادة، وهو في الوقت نفسه مدني في المجتمع العالمي.. ومن هنا يكون له نوعان من الحقوق، الأول بوصفه مواطناً محلياً، والثاني لكونه فرداً عالمياً، فإذا أضرت حكومته الوطنية بحقوقه العالمية بات من حق المجتمع الدولي أن يتدخل لحمايته»، وخاصة أن سيادة أي الدولة، حسبما ذهب إليه جان جاك روسو هي مجموع سيادة الأفراد الذين يكوّنون هذه الدولة، وليست سيادة السلطة فقط، حسبما تذهب أنظمة كثيرة في العالم الثالث، قد تتجاوز على حقوق مواطنيها بدعوى التمسك بالسيادة الوطنية.

وقد وجدت دول كثيرة نفسها تعيش حالة من «السيادة المنقوصة» لأنها تمد يدها إلى الخارج للحصول على معونات اقتصادية، وأغلبها تم تقييد سيادته بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات دولية، تفرض قيوداً صارمة ورقابة شديدة، على بعض أوجه الحياة الداخلية بالدول، مثل الحفاظ على البيئة، والحد من الزيادة السكانية، وضمان حق الإضراب، والالتزام بالشروط الدولية للعمل وغيرها. كما أن الدول، وفي وقت تتمسك بسيادتها الخارجية، ليست سيدة على مباني السفارات والقنصليات والهيئات الدولية القائمة على أراضيها، أي بداخلها.

&

وبعد أن كان المجتمع الدولي يعمل وفق الفقرة السابعة من المادة الثانية لميثاق المنظمة الأممية التي تنص على أنه «ليس في الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما»، قدم كوفي عنان مشروع قانون إلى الجمعية العامة في دورتها الرابعة والخمسين، يعتبر أن السيادة لم تعد مسألة تخص الدولة الوطنية، التي تعد الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، بل تخص الأفراد أنفسهم، ومن هنا يصبح من حق المنظمة الدولية أن تتدخل لحماية حق الوجود الإنساني لأي فرد في العالم، وتتصدى لمن ينتهك حقوقه، أو ينال من كرامته.

ومشكلة بعضنا نحن العرب في خضم هذا أنه مازال يبحث عن الحماية في نصوص قانونية ترفع مبدأ السيادة الوطنية، وهذا لم يعد كافياً أبداً، ليس فقط لأن الطرف الأقوى لا يعبأ كثيراً بهذه النصوص ويتصرف وفق مبدأ مضاد هو «القوة فوق الحق»، بل أيضاً لأن هذا الطرف لديه هو الآخر من النصوص، ما يبرر شكلياً تدخله في شؤون الدول الضعيفة. فعلاوة على مقترح عنان، المشار إليه، ينص أحد بنود ميثاق الأمم المتحدة على أن «تصرف الشخص باعتباره رئيساً لبلد أو زعيماً لا يعفيه من المسؤولية عن ارتكاب أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون المنظمة الدولية… والجرائم ضد سلام وأمن البشر تعد جرائم دولية يجب معاقبة الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عنها». وهنا لا تجد القوى الكبرى أي عناء في استخدام الأمم المتحدة غطاء لتطبيق هذه المواد القانونية، ضد أي كان، بل إن هذه القوى تنتظر أخطاء الدول الصغرى لتتدخل، حتى عسكرياً، في شؤونها، ودون حاجة إلى غطاء من الشرعية الدولية، كما جرى للعراق.

لقد آن الأوان للعرب أن يتعاملوا بواقعية مع ما جارت به العولمة على السيادة، وإلا وجدوا أنفسهم منجرفين تباعاً إلى لحظة الخطر. وهذه الواقعية لا تعني الانبطاح بل تحصين الذات ضد ذرائع التدخل، بمفارقة المأزق السياسي المتراوح بين الشمولية والديكتاتورية، والتطهر من الفساد الإداري، وإنهاء حالة الضعف الاقتصادي، مع زيادة درجة التماسك الاجتماعي.
&