صالح القلاب

حتى قبل أن يبدأ وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس مهمته لتسويق مبادرة فرنسية جديدة لإطلاق مفاوضات عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مجددًا، بادر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى رفضها، وكرر هذا الرفض بعد أقل من 24 ساعة، بينما نائبة وزير خارجيته تسيبي هوتفلي قد قالت في الفترة نفسها وفي الوقت ذاته: «إن هذه المبادرة لن تكون مثمرة لأنها تمنح منظمة التحرير وهمًا بأنها ستحصل على شيء من المجتمع الدولي دون تقديم أي تنازلات، وهذا يعني أن المفاوضات المباشرة بين الجانبين هي وحدها التي من الممكن أنْ تحل هذا الصراع».

وبالطبع، فإنَّ المعروف أن المفاوضات المباشرة من الناحية العملية بقيت مستمرة منذ عام 1993، وإنْ بصورة متقطعة في بعض الأحيان، وحتى أبريل (نيسان) عام 2014، لكن من دون التقدم ولو بمقدار خطوة واحدة، بل إن رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو قد تخلى عن كلِّ توجهات كلِّ من سبقوه التي وصفت بأنها مشجعة وإيجابية، بل إنه لم يكتفِ بهذا وبات يطالب الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.

والمعروف، بل لعلَّ ما أصبح معروفًا، هو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) قد رحب بالمبادرة الفرنسية، وأنه «ثمَّن» الموقف الفرنسي التاريخي، وبخاصة منذ أنْ اتخذ الجنرال شارل ديغول ذلك الموقف المميز بعد العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين والعرب في حرب الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، لكنه، أي أبو مازن قد نوه بنقطتين رئيسيتين هما: أولاً: ضرورة أن تكون هناك فترة زمنية محددة يتم الاتفاق عليها لإنهاء الاحتلال. وثانيًا: أن تكون حدود الخامس من يونيو عام 1967 هي المرجعية، وعلى أنْ تكون القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة ووفقًا لهذه الحدود.

وحقيقة، إنَّ أبو مازن قد أوضح لاحقًا، ربما ردَّا على طلب إسرائيلي أبلغه بنيامين نتنياهو للمبعوث الفرنسي، أنه لا تنازل إطلاقا عن حق الشعب الفلسطيني في العودة وفقًا للقرارات الدولية وأهمها قرار رقم 194 المعروف، وأنه لا اعتراف بالدولة اليهودية التي بقي رئيس الوزراء الإسرائيلي في السنوات الأخيرة يصر على ضرورة اعتراف منظمة التحرير بها.

والغريب أن حركة حماس، ومعها التنظيمات الفعلية والوهمية المعروفة، بدل أن تلوذ بفضيلة الصمت، طالما أن الإسرائيليين بادروا لرفض المبادرة الفرنسية هذه حتى قبل أن يلتقوا المبعوث الفرنسي ويسمعوا منه، بادرت وكعادتها دائمًا وأبدًا وعلى غرار ما بقيت تفعله تنظيمات الرفض الفلسطينية على مدى نحو نصف قرن إلى إعلان رفضها لهذه المبادرة، وبهذا فإنها وضعت نفسها أمام العالم وأمام الدولة المعنية فرنسا جنبًا إلى جنب مع إسرائيل.

والمهم، في هذا الصدد، هو أن الفرنسيين على لسان وزير خارجيتهم بعد أن قالوا: إن الجمود قاتل بعد مرور أكثر من عام على توقف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية التي رعتها الولايات المتحدة مباشرة من خلال الجولات المتكررة إلى الشرق الأوسط وهذه المنطقة تحديدًا التي قام بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أشاروا وهي إشارة موجهة بالتأكيد إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى أن الخوف إذا توقفت هذه المفاوضات نهائيًا وفشلت عملية السلام هو أنْ تحل «الجماعات المتطرفة» والإرهابية محل منظمة التحرير الفلسطينية فتنقلب الأمور رأسًا على عقب ويسود صراع دموي على مدى قرن جديد بأكمله وربما أكثر.

وهنا فإنه من الضروري الإشارة إلى أن إسرائيل، خلافًا لكل قوانين الصراع، بدل أنْ تسعى لإبراز قيادة معتدلة للشعب الفلسطيني يمكن التفاهم معها في المستقبل للتوصل إلى حلٍّ معقول يرضي الفلسطينيين والإسرائيليين تمسكت ليس بعد يونيو عام 1967، وإنما قبل ذلك بأكثر من عامين بأنها: «تحارب إرهابيين» وبأن منظمة التحرير إرهابية وحركة فتح إرهابية وأن ياسر عرفات إرهابي وأن كل التنظيمات والقيادات الأخرى إرهابية.

وكذلك وإلى جانب هذا فإن الأحزاب الإسرائيلية ومعها المجتمع الإسرائيلي كله تقريبًا باستثناءات قليلة جدًا وفي مراحل تاريخية عابرة لم تسمح ببروز قيادة إسرائيلية معتدلة لديها الاستعداد للتفاهم مع الفلسطينيين على ما يمكن وصفه بالحلول المعقولة بالنسبة للطرفين، وهنا فإن الجدير بالذكر هو أنَّ إسحاق رابين الذي جرى إعدامه رميًّا بالرصاص وهو يحتفل بـ«السلام» في أحد ميادين تل أبيب كان ظاهرة فريدة وغريبة من الواضح أنها لن تتكرر في المدى المنظور طالما أن الشعب الإسرائيلي بات يتجه خلال السنوات الأخيرة نحو المزيد من «اليمينية» والتطرف وإطفاء بصيص أي أمل بإنهاء هذا الصراع بالوسائل السلمية.

ثم، وخلافًا لما هو مفترض فإن إسرائيل لم تكتفِ باعتبار كل القادة الفلسطينيين إرهابيين وكل التنظيمات الفلسطينية إرهابية حتى بما في ذلك حركة فتح ومنظمة التحرير وحتى بما ذلك ياسر عرفات (أبو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) ومحمود وعباس (أبو مازن)، بل إنها عمليًا كانت تشجع التنظيمات المتشددة والمتطرفة وكانت في حقيقة تفرح لخطف الطائرات المدنية وتسعدها العمليات التي كان يقوم بها المناضل الفلسطيني الدكتور وديع حداد وتقوم بها الجبهة الشعبية.

وأيضا، فإن المعروف أن إسرائيل قد دأبت ومنذ البدايات وفي وقت مبكر جدًّا على استهداف المعتدلين الفلسطينيين لأنها رأت أنهم يتحدثون إلى الرأي العام العالمي بلغة مفهومة ومقبولة حيث قام «الموساد» الإسرائيلي باغتيال المثقف الفلسطيني المبدع وائل زعيتر في إيطاليا واغتيال عصام الرطاوي وسعيد حمامي وإنْ برصاصة مأجورة ومن خلال منظمة مشبوهة.. ولاحقًا اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وقبل ذلك ماجد أبو شرار وكمال عدوان و«أبو يوسف النجار» وكمال ناصر الشاعر الرقيق الذي لم يطلق في حياته ولا رصاصة واحدة.

هل هناك من هو أكثر اعتدالاً من ياسر عرفات (أبو عمار) وأكثر منه استعدادًا للذهاب بالشوط حتى نهايته مع التمسك بالطبع بما يسمى الثوابت والأساسيات الفلسطينية، التي لا يمكن التنازل عنها أو المس بها، لكن ومع ذلك فإن القيادة الإسرائيلية في عهد شارون الذي يعتبر بنيامين امتدادًا له قد اغتالته بحصار لم يشهد التاريخ مثله ثم بالسُّم الزعاف حسبما وجّه إليها من اتهامات عالمية، وحيث لا تزال التحقيقات والتقصيات مستمرة لتحديد نوعه ومصدره حتى الآن.

وهكذا، ولأن المؤكد أن إسرائيل ليست بصدد التوصل مع الفلسطينيين إلى حلٍّ معقول يوفر الاعتراف للإسرائيليين بدولة أمر واقع غير «يهودية» ويوفر للشعب الفلسطيني إقامة دولته «المنشودة» على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ثم ولأنها، أي إسرائيل، مصممة على التخلص من كل اتجاهات ورموز وتنظيمات وقادة الاعتدال في المسيرة الوطنية الفلسطينية فإن البديل سيكون حتمًا، وهذا ليس بعيدًا، هو «داعش» و«القاعدة»، وهو الجماعات المتطرفة التي تحدث عنها الفرنسيون في مبادرتهم التي تقدموا بها أخيرًا ورفضها بنيامين نتنياهو وحكومته وأحزابه وتحالفه حتى قبل أن يكشف أصحابها النقاب عنها.

لقد سدت إسرائيل كل الطرق أمام منظمة التحرير وأمام حركة فتح فكان البديل حماس والجهاد، والآن فإن ما يعرفه بنيامين نتنياهو بالتأكيد هو أن قطاع غزة بات يشهد بروز تنظيمات متطرفة بادرت إلى مبايعة «داعش» وأن هذه التنظيمات ستتسرب حتمًا إلى الضفة الغربية.. وأيضا إلى عرب 1948 إذا بقي الإسرائيليون يدوسون عمليات السلام بأقدامهم وإذا استمروا باضطهاد الشعب الفلسطيني على هذا النحو وبهذه الطريقة، وإذا واصلوا سدَّ كل المنافذ المعقولة أمام العملية السلمية.