&&كرم سعيد
& على رغم الهدوء الحذر في سيناء، وقطع شوط معتبر في معالجة التهديد المتصاعد للجماعات الراديكالية طوال الأشهر التي خلت، بفضل إعادة هيكلة المشهد الأمني وتأسيس قيادة عسكرية موحّدة لمنطقة شرق القناة، إلا أن المشهد أصبح أكثر تعقيداً، بعد استهداف مواقع ونقاط تفتيش وحواجز عسكرية في مطلع تموز (يوليو) الجاري في منطقة الشيخ زويد، ومقتل وإصابة نحو 70 من عناصر الجيش في أعنف هجوم، بالتزامن مع الذكرى الثانية لعزل الرئيس محمد مرسي.
وأثارت الهجمات الأخيرة التي تبنّتها جماعة «ولاية سيناء»، التي أعلنت قبل عام مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، قلق الدولة المصرية، حيث شكّلت الهجوم الأول من نوعه الذي استُخدمت فيه أسلحة غير تقليدية تضمّنت مضادات الطائرات محمولة على سيارات رباعية الدفع، إضافة إلى عمليات انتحارية واشتباكات مباشرة مع القوات، وزرع عبوات ناسفة على الطرقات لمنع وصول أي إمدادات طبية أو عسكرية، وهو ما مثّل تحدياً لقوات الجيش وأبطأ من تقدّمها لمطاردة الإرهابيين.
ملامح الخلل كشفها حجم الخسائر في صفوف قوات الجيش، والاجتماع العاجل في 2 تموز للمجلس الأعلى للقوات المسلّحة لبحث تداعيات الهجوم، ناهيك عن كشف عورات القدرات التسليحية والتدريبية للقوات النظامية في مواجهة الإرهابيين، وأيضا الفجوة اللوجستية بين القيادة المركزية وأطرافها.
استهداف كمائن الجيش لم يكن الأول من نوعه، فقد وقع في 24 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، هجوم «كرم القواديس» وراح ضحيته نحو 27 قتيلاً و33 جريحاً، الأمر الذي استدعى إعلان حال الطوارئ في مدن شمال سيناء لمدة ثلاثة أشهر، وفرض حظر التجوال، في مؤشر إلى تطوير العمليات العسكرية لملاحقة المسلّحين في شبه الجزيرة. وفي آب (أغسطس) 2013، قُتل 25 شرطياً بعد نحو شهر من إطاحة الجيش حكم الرئيس مرسي. وقبل عامين وتحديداً في آب 2012، قُتل 16 جندياً من قوات حرس الحدود في هجوم ضد نقطة أمنية في رفح وقت الإفطار، وتلا ذلك اختطاف سبعة جنود مصريين في سيناء في أيار (مايو) 2013. وبدأت حوادث الاعتداء على المعسكرات الأمنية وخطف الجنود في سيناء منذ عام 2011.
غير أن التطورات الأخيرة تبدو مختلفة عن سابقتها، إذ تلمّح إلى تطوّر تكتيكي ومعلوماتي للجماعات الراديكالية في سيناء، وكذلك تدريب احترافي وتنسيق مع كيانات غير محلية كشفت عنها مشاركة جنسيات أجنبية في الهجوم، بجوار مشاركة أعداد كبيرة من عناصر السلفية الجهادية في قطاع غزة الداعمة لـ «داعش» و «بيت المقدس».
كشفت الهجمات الإرهابية في الشيخ زويد، عن حدود نجاحات الخيار الأمني في استئصال جماعات العنف في سيناء، وكان بارزاً، هنا، ضعف المردود الإيجابي للقيادة الموحّدة التي تتمتّع بالصلاحيات الممنوحة لقائد عسكري من قوات بحرية وجوية ومشاة واستخبارات حربية وغيرها من أفرع الجيش، وتعمل باستقلالية مطلقة من دون الحصول على إذن من رئاسة الأركان إلا في حالات الضرورة القصوى. كما كشف الحادث الأخير عن فشل المناطق العازلة على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة، التي يصل طولها إلى 13 كيلومتراً، وتشمل عمليات تطهير واسعة للأنفاق على الحدود بين رفح المصرية وقطاع غزة، وتقرّرت إقامتها بعمق يتراوح بين 500 و1500 متر قابلة للزيادة.
وفي الوقت الذي كشفت إيحاءات عن دعم خارجي تم تقديمه لتنفيذ الهجوم ضد الحواجز والمنشآت العسكرية في سيناء بهدف إسقاط الدولة، ذهب البعض إلى تسييس العمليات الإرهابية، والأرجح أن السعي إلى تفسير «خارجي» للهجوم الإرهابي في شمال سيناء، على وجاهته، في ظلّ حال التوتر الذي يعتري علاقة القاهرة مع حماس وبعض القوى الإقليمية، ليس تبريراً كافياً.
صحيح أنه لا توجد أدلة قاطعة على تورّط «حماس» في دعم منظمات الإرهاب في سيناء، إلا أن تمركز «جيش الحق» و «سيوف الحق» وكذلك «جيش الإسلام» داخل غزة، فضلاً عن عدم إصدار بيان من قيادة «حماس» تعتبر فيه «أنصار بيت المقدس» تنظيماً إرهابياً، يضع كثيراً من علامات الاستفهام في شأن موقفها.
قد تكون لـ «حماس» مصلحة في اضطراب الأوضاع في مصر، لتصدير صورة ذهنية لنظام السيسي الذي يتّسع الرتق بينه وبين حركة «حماس»، التي تمثل امتداداً أيديولوجيا لجماعة الإخوان. لكن ليست للحركة من جانب آخر مصلحة في تسخين الجبهة الشرقية في مصر، في ظل تصاعد العنف الإسرائيلي ضد القطاع، وحاجة سكانه إلى معبر رفح، وبالتالي يظلّ حرص «حماس» قائماً على ترك الباب موارباً مع القاهرة، خصوصاً بعد إلغاء محكمة استئناف القاهرة في حزيران (يونيو) الماضي حكماً باعتبار حركة المقاومة الإسلامية «حماس» الفلسطينية «تنظيما إرهابيا».
في سياق متّصل، فإن الجماعات المتطرفة المصرية الموجودة في سيناء، والتي توسّع حضورها في الفترة الأخيرة، يمكن لها تنفيذ عملية من هذا النوع اعتماداً على نفسها، إلى جانب مساعدات لوجستية محدودة من متطرفين ربما داخل القطاع أو خارجه. لذلك، فإن المعضلة الأمنية في سيناء لا يمكن مواجهتها بمعزل عن السياسات اللازمة لتغيير بيئة اجتماعية يسودها الشعور بالقهر والإحباط. فلا تزال المشاكل التي يعاني منها سكان سيناء قائمة منذ إنهاء احتلالها وعودتها إلى مصر كاملة عام 1982.
أضف إلى ما سبق، أن ثمة شعوراً لدى شرائح واسعة من أهالي سيناء بأنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة، ناهيك عن أنهم وحدهم من دون غيرهم من المصريين ما زالوا محرومين من حقّهم الطبيعي في تملّك الأراضي، سواء التي يزرعونها أو تلك التي يقيمون عليها هم وأولادهم، مع مراعاة أن سيناء تمثّل حوالى 6.25 في المئة من مساحة مصر تقريباً، وتعتبر بوابتها الشرقية حلقة الوصل بين المشرق والمغرب العربيين، إضافة إلى أنها تمثل المورد الأول لثروة مصر المعدنية. والواقع أن سيناء منسيّة ولا تأخذ حقّها في التعمير والتنمية.
كان هناك مشروع قديم لتعمير صحراء سيناء وزرعها بالقرى الدفاعية، وضعه سلاح المهندسين في عام 1955، وكانت فكرته مستوحاة من الكانتونات الإسرائيلية في صحراء النقب القائمة على الحدود، ولكن مع تأميم القناة وحرب السويس وبناء السد العالي، تعطّل المشروع. وفى عام 1994، انطلق المشروع القومي لتنمية سيناء، والذي هدف إلى توطين 3 ملايين نسمة في سيناء وتوفير نحو 612 ألف فرصة عمل، غير أنه لم يحقق المرجو منه بعد مرور هذا السنوات كلها، وعلى رغم أنه كان من المنتظر إعادة الاعتبار الى سيناء، إلا أن الجهود ما زالت أولية ولا تتعدى حدود الوعود والأمنيات. ومثّل غياب خطط التنمية وضعف الدخل عنصراً مهماً في تغذية الاحتقانات الاجتماعية، وتوفير بيئة حاضنة للعنف وأبنائه، وتتراوح أعداد المنتمين الى التنظيمات الجهادية في سيناء بين 2500 و3000 عضو، وتتكون معظم الجماعات من خلايا صغيرة محدودة العدد، ولا تميل في معظمها إلى الاندماج في كيانات أكبر وأكثر تنظيماً.
المراقب للمشهد الأمني والحركة الميدانية على أرض سيناء في الفترة الماضية، يدرك أن هناك شيئاً مغايراً يتحرك وينمو مستنداً إلى تمدد التنظيمات الراديكالية وفي الصدارة منها «ولاية سيناء»، وارتخاء القبضة الأمنية وضعف القدرات التسليحية للدولة المقيّدة بقواعد «كامب ديفيد» واشتراطاتها، وكذلك ظاهرة الأنفاق وما ترتّب عليها من تداعيات سلبية.
والأرجح، أن الدولة قامت طوال الشهور التي خلت، بسلسلة من الإجراءات الأمنية في محاولة لمحاصرة العنف في سيناء، غير أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لقضم الجماعات الجهادية، الأمر الذي دفع المؤسسة العسكرية إلى اتخاذ إجراءات إضافية، أبرزها إقامة منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة، فضلاً عن التفكير في حفر ممر مائي بطول 10 كيلومترات على طول الحدود مع غزة للحيلولة دون حفر الأنفاق.
في سياق متصل، أُعيد التفكير في استكمال الجدار العازل «الفولاذي»، الذي تم البدء في بنائه عام 2009 على طول الشريط الحدودي مع غزة، بهدف حماية الأمن القومي ومنع عمليات التهريب عبر الأنفاق بجوار سيناريو رابع يرتبط بتمديد حالة الطوارئ التي أعلنها رئيس الدولة في شمال سيناء.
لكن المنطوق الأمني وحده لا يكفي لمعالجة العنف المتنامي بمعزل عن الحلول السياسية والمجتمعية، إذ إن ثمة حاجة ملحّة الى إطلاق مشروع قومي تنموي في سيناء، يتيح فرص عمل جادة غير موسمية للأهالي.
تبقى التنمية وإعادة صياغة العلاقة بين الدولة وبوابتها الشرقية، الخيار الأقرب لمواجهة أبناء العنف الذين يتوعدون الدولة، ولعلّ تخصيص نحو 10 بلايين جنيه اعتمدها السيسي في شباط (فبراير) للتنمية ومكافحة الإرهاب في سيناء، يبقى خطوة أولى على طريق مواجهة الأفكار التكفيرية شريطة ترجمتها على الأرض.
&
التعليقات