عادل درويش

الصورة ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي مساء الثلاثاء الماضي، لتنشرها الـ«ديلي ميرور»، (تعكس سياسات لحزب العمال)، فبقية صحف «فليت ستريت» البريطانية في الطبعة الثانية.. التقطها مراهق كان بصحبة والديه عائدًا من إجازة «رخيصة» في البرتغال على متن طائرة «إيزي جيت»، من خطوط «طيران الميزانية المتواضعة»، (Budget airlines) التي أتاحت السفر للخارج لمحدودي الدخل.


معظم مسافريها من التلاميذ أو المهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية الذين يتوافدون على مدن بريطانيا للعمل منظفي منازل، أو عمالاً يدويين.
الرحلات تقلع من وتهبط في مطارات نائية تستغرق الرحلة منها إلى وسط المدينة الكبرى ما يزيد على ضعفي مدة رحلة الطيران.


مثلاً، طيران «رايان إير» (يسميها الصحافيون ساخرين، أرخص وأسوأ طيران عرفه التاريخ، حيث يدفع المسافر جنيهًا لاستخدام المرحاض أثناء الرحلة الرخيصة الثمن)، ويمتلكها مليونير آيرلندي شديد البخل رفع قضية على إدارة المطارات بسبب بطء إجراءات التفتيش الأمنية، مما يضيع الوقت؛ و«الوقت مال»، كما قال للقاضي.


إذا سافرت بإحدى طائراتهم إلى هامبورغ في شمال ألمانيا تهبط بك في مطار لوبيك (كان قاعدة حربية لـ«لوفتوافا» أثناء الحرب العالمية الثانية)، وهي مدينة ساحلية تبعد 80 كيلومترًا عن هامبورغ، ورحلة التاكسي تكلفك أربعة أضعاف ثمن تذكرة الطائرة. رحلاتها من وإلى لندن تهبط في مطاري ستانستيد (على بعد ساعة ونصف الساعة أو 180 دولارًا بالتاكسي إلى لندن)، ولوتون (على بُعد ساعتين من لندن)، لكنَّ أثمان الرحلة بسيطة (مثلاً رحلة من لندن إلى العاصمة البولندية وارسو نحو 50 جنيهًا، أو ريغا عاصمة لاتفيا نحو 60 جنيهًا.. وللمقارنة وجبة غداء وتذكرتا مسرح لي ولولدي، ابن الرابعة عشرة بعد ظهر الأربعاء كلفتني 230 جنيهًا أو 360 دولارًا غير أجرة التاكسي والمشروبات في المسرح).


هذه التذاكر الرخيصة تعرِّض المسافرين لأسوا معاملة (لا توجد درجة رجال أعمال أو أولى)، فالمقاعد ضيِّقة غير مريحة ولا تتحرَّك كثيرًا إلى الوراء لتستريح (معظم الرحلات في أوروبا وأقصى مسافة ثلاث ساعات). وإذا كان طولك أكثر من خمس أقدام وتسع بوصات (متر و79 سم، وهو الطول المتوسط للرجل الأوروبي) فتنحشر ركبتاك أثناء الرحلة وتدفع أضعاف ما وفّرته جلسات علاج للمجبّراتي. هناك 12 أو 18 مقعدًا (حسب حجم الطائرة) في الأمام وممر مخرجي الطوارئ لمساحة الأرجل الطويلة، يمكن حجز أحدها مقابل 25 أو 30 في المائة، إضافة لثمن التذكرة. الطائرة لا تقف في مدخل بوابة الجسر المتحرك، أي تصعد وتهبط بسلالم (لتوفير وقت الهبوط والإقلاع بعشر دقائق) والويل للبدين أو المعاني من الروماتيزم.


عند نداء السفر يهرع الجميع بشعار «البقاء للأسرع»، فلا حجز للمقاعد، لكن يمكنك حجز مقعد مقدمًا مقابل إضافة ما يوازي 15 في المائة من ثمن الرحلة «الاقتصادي». ولأن الحجز عبر الإنترنت فقط (التليفون برقم يبدأ بـ09، حيث ثمن الدقيقة الواحدة جنيهان، ولن يردَّ عليك أحد قبل عشر دقائق)؛ كوبون الصعود (Boarding – Pass) تطبعه على كومبيوتر شخصي مقدمًا عند الحجز. لو نسيته وأصدروا لك كوبونًا في المطار، يكلفك 35 جنيهًا. الثمن الرخيص بحقيبة يد واحدة؛ وإذا أردت شحن حقيبة ملابس، تدفع أربعين جنيهًا. لا طعام ولا مشروبات أثناء الرحلة إلا إذا دفعت ثمنها، وكذلك ثمن استخدام المرحاض. باختصار، هذا النوع من الطائرات هو الأرخص والأبعد ما يكون عن الراحة ولا يمكن مقارنته إلا بمن يذكر من جيلي عربات الترسو (درجة ثالثة) في قطار الصعيد (ألغيت من فترة طويلة)، حيث إن المقاعد خشبية غير مريحة والنوافذ يدخل منها التراب، والبوفيه، والمرطبات من «جردل» به ثلج وزجاجات قازوزة مشكوك في صلاحيتها للاستهلاك الآدمي.


لماذا أصبحت الصورة التي التقطها مراهق خبرًا صحافيًا؟
صاحب الصورة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون (يأكل «كريسبيس» - يسمونه في أوروبا ومصر «تشيبس») في رحلة «إيزي جيت»، أرخص رحلة طيران، عائدًا من إجازته السنوية التي استغرقت أسبوعًا في جنوب البرتغال - والمسكين يبدو كمن يجلس على قفص ثمار التين الشوكي لأنه طويل القامة وركبتاه انحشرتا ألمًا (وكذلك ظهْر الراكب الأقل حظًا الجالس أمامه).


كاميرون من عائلة محترمة ثرية، درس في أرقى مدارس الإمبراطورية (كلية إيتون) ومقابلها لقرائنا كلية فيكتوريا في الإسكندرية (أيام زمان في العهد الملكي طبعًا، وليس الآن) وهو خريج أكسفورد أيضًا.
زوجته سامانثا من عائلة أرستقراطية (أبوها اللورد أستور من كبار إقطاعيي لانكشير)، والمسكينة «تبهدلت» في طائرة الميزانية الاقتصادية. ولأنها «بنت ناس أصول» من عائلة محترمة تتبع زوجها أينما ذهب ولا تحاول أن تخرج من ظله أو تقف أمامه؛ مثلما فعلت شيري بلير (أو «عزيزة هانم»، كما سمَّيتها سابقًا ليس كترجمة حرفية لـ«شيري»، بل لتصرفاتها الشبيهة بـ«عزيزة هانم» في كوميديات بديع خيري وماري منيب) التي كرهها الجميع من ساسة إلى صحافيين إلى ناخبين.


شعرت، كصحافي برلماني سياسي، بالذنب تجاه المسكين كاميرون والرقيقة سامانثا هانم المحترمة. كصحافيين نتحمَّل المسؤولية المباشرة في تغطيتنا الصحافية عن الرحلة «الترسو» المتعبة وبهدلة «ولاد الناس» كاميرون وزوجته.
فالويل له على صفحاتنا وشاشاتنا لو تجرَّأ وسافر هو والهانم بنت الأكابر على درجة رجال الأعمال (وليس حتى الدرجة الأولى) رغم أنه يدفع ثمن الرحلة من جيبه الخاص، لكُنّا اتّهمناه بالرفاهية والعيش في عزلة عن بقية الشعب الكادح (هنا يتضاعف الشعور بالذنب لازدواجية المعايير: كصحافي طاعن في السن وزملائي لا يمكن أن نعرِّض أنفسنا لبهدلة الترسو، بل نسافر درجة رجال أعمال أو أولى).


وأذكر عندما قضى توني بلير، وكان رئيس وزراء وقتها، وأسرته في إجازة شتوية في شرم الشيخ ضيفًا على الحكومة المصرية وسافر درجة أولى على «مصر للطيران» قصفناه بوابل من الأسئلة في المؤتمر الصحافي الشهري.. «كيف تفسِّر قضاءك وعيالك إجازة تحمَّل تكاليفها دافع الضرائب المصري؟»، ولم يجفف عرق الرجل إلا شيك كتبه أمام الكاميرات بقيمة التذاكر وتكاليف الإجازة من ماله الخاص وتبرَّع بها إلى جمعية خيرية مصرية بعد استشارة سفارة مصر وقتها. المعروف أن الرَّحالة وخبير السياسة الخارجية العالمية بلير وزوجته «عزيزة هانم» لا يزالان يذهبان لقضاء عطلة بين الفينة والأخرى في فيلا بشرم الشيخ، ولا نعرف بالضبط من يدفع التكاليف؟ الأمر لم يعد يهمنا، فبلير لم يعد سياسيًا منتخبًا أو يحتل منصبًا يموّله دافع الضرائب، أو مسؤولاً عن سياسة تؤثِّر على حياتنا كرعايا للتاج البريطاني.