عمّار علي حسن
من الأمور الخلافية التي نشبت بين الدول الغربية والعالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة محاولة فرض الديمقراطية عنوة، الأمر الذي تمت ترجمته في أعلى مراتبه عبر الغزو الأميركي للعراق في مارس من عام 2003، الذي أطلقت عليه واشنطن «عملية الحرية للعراق». ومثل هذا التصور يتناسى أن الديمقراطية التي نتجت في الغرب من خلال مسيرة حية على أرض الواقع، دفع البشر ثمنها حروباً وصراعات، لا يمكن أن تفرض بشكل فوقي، في أماكن أخرى، بشكل ميكانيكي، وبمنطق الاستزراع، أو من خلال الحوار، الذي يصبح وسيلة للهيمنة والدفع القسري، لا أداة للتفاعل الحضاري الحقيقي الحر. فالديمقراطية فعل ذاتي يمكن أن يتأثر بالآخر ولكن لا يكون صورة من صور التبعية له، أو إحدى الرسائل الناعمة للإمبراطوريات تستخدمها في توسعها، وهي مسألة تكررت ملياً في تاريخ الإنسانية، فها هو الباحث الألماني هيرفريد مونكلر يقول عقب دراسة سلوك الإمبراطوريات التي عرفها البشر إن: «كل الإمبراطوريات ذات العمر المديد اختارت هدفاً لوجودها، وتسويغاً لشرعية هذا الوجود، مهمة ذات بعد تاريخي عالمي، أعني أنها قد زعمت أن لها رسالة ذات أهمية كونية، أو رسالة تنقذ العالم المنضوي تحت لواء الإمبراطورية من الشرور التي عاناها البشر عبر التاريخ... وفي وسع المرء، طبعاً، أن يرى في الرسالة الإمبراطورية المدعية إنقاذ البشر من الشرور، وفي زعم الإمبراطورية العالمية أن لديها تفويضاً إلهياً، نعم! في وسع المرء أن يرى في هذا وذاك مجرد مصطلحات أيديولوجية، وأن يحاول، من ثم إزاحة القناع عن النواة الحقيقية للمشروع الاستعماري، للاستدلال على ما فيه من مصالح مادية دنيئة، يراد التستر عليها عادة».
ومسار فرض الديمقراطية على بعض الدول النامية يتجاهل المطلب الرسمي لدول الجنوب الذي طال أمده، برفضها التدخل في شؤونها الداخلية تارة، ومنح شعوبها الفرصة كاملة للتجريب السياسي، ومناداتها بضرورة أن تتحقق الديمقراطية في مجال العلاقات الدولية، سواء في تفاعلات الدول، أو في المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية. وقد آن الأوان للحوار الحضاري أن يفرق في قضية الديمقراطية بين «القيم» و«الإجراءات «المرتبطة بها، من دون أن ينكر أحد على الإطلاق أن الديمقراطية من أفضل صيغ الحكم التي توصل إليها البشر حتى هذه اللحظة. ولا خلاف على أن الإجراءات التي تنصرف إلى ما يضمن المنافسة والنزاهة يمكن تسويقها وتعويمها في أي ثقافة مهما كانت، أما القيم فقد تختلف في الدرجة، أو في رؤية كل أصحاب حضارة أو ثقافة لها. ولكن ما يخص الديمقراطية من نصيب في الحريات الثلاث التي ترتبط بالتفكير والتعبير والتدبير، لا غبار عليه، وكل ما قد ينجم عنه هو محل مشاورة ونقاش اجتماعي، لاشك في ضرورته لبناء الديمقراطية.
&
وقد جارت العولمة على الديمقراطية، على رغم الادعاءات التي ربطت الاثنتين، وحاولت أن تصور هذا الارتباط باعتباره لازمة أو متلازمة لا تنفصم عراها. كما جارت العولمة على الرفاه الاجتماعي للجميع، حين غذّت المعادلة التي تقوم على مجتمع الُخمس الثري والأربعة أخماس الفقراء. وخطاب العولمة لا يعدو كونه هِبة لليمين السياسي في البلدان الصناعية المتقدمة، لأنه يمد له حبل النجاة بعد الفشل الذريع، الذي مُنيت به تجارب سياسته النقدية والفردية الراديكالية خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. ولكن العولمة لم تلبث أن وقعت في أزمة جديدة وطاحنة بدأت في المراكز الرأسمالية الأساسية، وامتدت منها إلى سائر العالم، حتى لو تعافى العالم من هذه الوعكة الكبيرة، فإن الإصرار على نهج العولمة سيفتح الباب على مصراعيه أمام أزمات لاحقة، قد لا تنتهي.
إن النظام الدولي الحالي يتسم بأنه يعمل على تغليب المصالح العاملة على صعيد عالمي على حساب المصالح الأخرى التي تنشط تقليدياً في الإطار الوطني بالأساس، الأمر الذي يمثل بدوره عائقاً إضافياً في سبيل عمل الوفاق الاجتماعي الوطني، الذي يمكن أن يشكل سياقاً اجتماعياً سياسياً يعزز الديمقراطية الطوعية التي تسير إليها الشعوب بكفاحها الذاتي، وهي الأرسخ والأدوم، وليس تلك الطريقة المعوجة في فرض الديمقرطية فرضاً، أو اتخاذها شعاراً من أجل تبرير تدخل القوى الكبرى في شؤون الدول الصغرى، مثلما فعلت الولايات المتحدة في التمهيد لغزو العراق بدعوى تحريره وإقامة الديمقراطية، فانتهى الأمر إلى المأساة التي باتت ماثلة للعيان والآذان والأذهان.
&
التعليقات