يوسف مكي

طوى الحادي عشر من سبتمبر صفحة من التاريخ وفتح أخرى، في العلاقات الدولية. وحينها كان الحديث مجرد قراءة استشرافية لما ستؤول إليه الأوضاع في العالم وفي منطقتنا. ومعه أيضا تصور باحتمال اقتناص مرارة الحدث لتنفيذ أجندات سياسية مؤجلة منذ عدة عقود

&


قبل أربعة عشر عاما من هذا التاريخ، وتحديدا في 11 سبتمبر 2001، هوجمت الولايات المتحدة الأميركية في عقر دارها. وكان ذلك أول هجوم على الأراضي الأميركية، بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر، أثناء الحرب العالمية الثانية. ففي صبيحة ذلك اليوم، أقدمت مجموعة تابعة لتنظيم القاعدة على اختطاف طائرات مدنية، واستخدمتها كصواريخ، انقضت على برجي مبنى التجارة الدولي في نيويورك، ومبنى البنتاجون في العاصمة الأميركية واشنطن دي سي.


في ذلك اليوم المشؤوم على العالم بأسره، وعلينا نحن العرب والمسلمين بشكل خاص. نشرت مقالا في صحيفة الوطن، حمل عنوان "بين الأخلاق والسياسة"، ذكرت فيه أن مشهد الهجمات الانتحارية المرعبة على برجي مركز التجارة ومبنى البنتاجون، لم يكن ملهاة إغريقية، أو مجرد تراجيديا إنسانية. لقد كان شيئا مختلفا بكل المقاييس. فلم يحدث أن شهد العالم، من قبل، هذا النوع من الأعمال الانتحارية، تصب جام غصبها على أهم معاقل القطب الوحيد، المتربع من غير منازع، على عرش الهيمنة في العالم. لقد كان الهجوم على مكمني قوة الولايات المتحدة: الاقتصاد والجيش.


لقد طوى الحادي عشر من سبتمبر صفحة من التاريخ وفتح أخرى في العلاقات الدولية. وحينها كان الحديث مجرد قراءة استشرافية، لما ستؤول إليه الأوضاع في العالم وفي منطقتنا بشكل خاص. ومعه أيضا تصور باحتمال اقتناص مرارة الحدث لتنفيذ أجندات سياسية مؤجلة، منذ عدة عقود، على رأسها إنهاء النظام العالمي الذي ساد بعد الحرب الكونية الثانية، وإعادة تشكيل خارطة البلدان العربية، بوحي من الهويات الإثنية والطائفية، بدلا عن الهويات الوطنية.


والسؤال الذي طرح في حينه، تركز حول علاقة الأخلاق بالسياسة. وهو موضوع شائك طرحه فلاسفة الإغريق، أثناء فتوة حضارتهم، وحين بدأت نشأة العلوم. ولحساسية قضايا السياسية، جرى إلحاق هذا الحقل من حقول المعرفة بمدرسة الأخلاق، على قاعدة أن أي فعل سياسي لا يرتبط بمصلحة الناس هو فعل شائن. وأنه لا يجوز لأي فرد أو دولة إلحاق الأذى بالفرد، تحت ذريعة المصلحة العامة.


وكانت علاقة الأخلاق بالسياسة، والحاجة إلى تحديد شكل المجتمع الأثيني قد دفعت بأرسطو إلى تأليف كتابه الشهير "السياسة"، الذي حدد فيه من وجهة نظره علاقة المجتمع بالدولة من جهة، وعلاقة الأفراد ببعضهم بالمجتمع الواحد، من جهة أخرى.


منذ انتهت الحرب الباردة، والإعلان عن نهاية التاريخ، اعتبرت الأيديولوجيات من الماضي، مع أن لكل حضارة وكل ثقافة، وإمبراطورية إنجيلها الخاص. ونهاية الحرب الباردة ذاتها لم تسلم من حقن أيديولوجية، فقد كانت أكثر شيوعا في حينه عنها، انتصار للإرادة الحرة، ولمبدأ آدم سميت "دعه يعمل". وكان للضجيج العالي بريقه الذي لا يقاوم.
ولأن الكون لا يقبل الفراغ، أمست البراغماتية بديلة عن الأيديولوجيا. وقد عنى ذلك تغليب قانون المنفعة على ما عداه. وكان هذا التغليب بالطريقة التي طرح فيها، يعني في أبسط معانيه عودة لقانون الغاب، وسيادة مقولة إن البقاء للأقوى. وما تحصده مشاريع تغليب المنفعة من مذابح وضحايا، فإنها ليست سوى قرابين مقدسة، لا تعني كثيرا، إزاء نجاح مشاريع الهيمنة، والدمقرطة المعبدة بالدم.


كانت ردة الفعل الأولى لأحداث 11 سبتمبر 2001 هي شن حرب عالمية على الإرهاب. وكانت الطريقة التي بررت فيها الحرب على الإرهاب قد حملت منطق تنظيم القاعدة في تقسيم العالم إلى فسطاطين: فسطاط الخير وفسطاط الشر، وتجلى ذلك في صرخة جورج بوش العالية: "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، في مجتمع يسلم بالتنوع، وبحرية الرأي، وطرح العلمانية والعقلانية.


وطبيعي ضمن المنطق الأميركي، لما بعد كارثة سبتمبر أن يوضع خصوم القطب الأوحد في خانة الأشرار. وفي هذا السياق، طرحت قائمة بأسماء الأشرار المستهدفين، ضمت أكثر من عشر دول، كأهداف مرشحة في الحرب العالمية على الإرهاب. وفي لحظة غضب، صعد بوش العدد المستهدف إلى ثلاثين دولة. ثلاث دول ضمن قائمة العشر اعتبرت هي الأخطر في مساندة الإرهاب وعرفت بمحور الشر، على قياس دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وقد حددت بثلاث لتكون متطابقة بالدقة في شكلها مع دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان، يقابلها العراق وإيران وكوريا الشمالية.


لكن اللاحق من الأيام أكد أن هذه الحرب ستتوجه بعد أفغانستان نحو العراق. وكان الغريب في الأمر، حد الصدمة، أن الإدارة الأميركية اختارت التحالف مع إيران أحد أقطاب محور الشر، للتنسيق معه حول احتلال العراق، وتفكيك دولته الوطنية، وإقامة عملية سياسية تستند على القسمة والتفتيت، ودعم الميليشيات العراقية الموالية لإيران، فكان الاحتلال نكوصا إلى الخلف، وبعثا لهويات بائسة، مندثرة، لتكون بديلا عن الانتماء للعراق، وعمقه العربي.


ومنذ ذلك التاريخ تكشف أن مشروع الحرب على الإرهاب لم يكن سوى حصان طروادة، الذي من خلاله تتحقق مشاريع القسمة والتفتيت، وضياع مستقبل الأمة. أما الحرب المعلنة على الإرهاب فتكشف أنها فرية لم تصمد طويلا. فإثرها توسع تنظيم القاعدة وانتشر في بلدان عربية، لم تكن له موضع قدم فيها. ومعه نشطت الميليشيات الطائفية التي تقتل على الهوية بأرض السواد. ومع الفوضى التي عمت المنطقة ولد تنظيم داعش.
وجاء ما عرف بالربيع العربي، ليقضي على البقية الباقية من الأمل في صمود النظام العربي، بتشكيله الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وليشعل حروبا أهلية، في ست بلدان عربية في آن واحد. لقد دمرت كيانات وطنية، بالكامل، واستولت عليها ميليشيات الإرهاب، من داعش وأخواتها. وانتهى الأمر بتشريد أكثر من عشرين مليون عربي من ديارهم، من العراق وسورية واليمن وليبيا. والقائمة لم تقفل بعد.


فشل مشروع الحرب على الإرهاب، بعد أربعة عشر سنة من انطلاقه، لأنه غلب قانون المنفعة على ما عداه من العناصر الأخرى، ولم يزاوج بين الحرب وبين الموقف الإنساني والأخلاقي. فكان أن تعدت أهدافها المعلنة، لتستهدف بلدانا وكيانات. وستظل حالة الانفصام قائمة بنتائجها الكارثية، ولن يدحر الإرهاب بمختلف أشكاله، إلا بتغليب الأخلاق، والعودة مجددا إلى المنطق الإغريقي، الذي يربط السياسة بالأخلاق.
&