سمير عطا الله
بعض الفقد، فقد. بمعنى أن صاحبه حفر لنفسه في الحياة مكانًا لا يملأه غيره. فاروق شوشة، الذي ولد في قرية «الشعراء»، ودرس في «الكتّاب» هناك، كان أحد علماء اللغة وعاشقيها وحرّاسها ومحدثيها. بسبب تملكه لها سمح لنفسه أن ينتقل بها إلى التحديث من دون أن يمس جوهرها. صقل جواهرها ولم يغرقها في التراب أو يصوّنها بالحجارة.
عاش في عصر الإذاعة. والإذاعة كانت مكانًا هادئًا للأدباء، ومنبرًا جميلاً للغويين. وطوال 48 عامًا وجد دائمًا ما يتحدث عنه في «لغتنا الجميلة». كانت له إذاعة مصر كما كان له برنامج إضافي في «بي بي سي». نقل صوته وأفكاره إلينا في العالم العربي وإلى مرحلة طويلة. شكل هو والدكتور حسن الكرمي في إذاعة «بي بي سي» أجمل وأعمق صوتين للغة العربية، ينقلان لآلئها عبر الأثير حيثما تصل الموجات المتوسطة أو القصيرة.
وإذا اختص الكرمي الساحر بأصول الشعر وجذور القوافي، تجوّل فاروق شوشة في بساتين النثر وحدائق المأثور.
وقد تميز الشاعران، الفلسطيني والمصري، بحنجرة قريبة من روعة الغناء. الأول في عمقها ورصانتها، والثاني في بحّتها الحزينة، وكأنه خائف دومًا من خطأ أو زلّة. لا تزال «بي بي سي» تعيش على محفوظاتها من كنوز الكرمي، وأعتقد أنها سوف تتحول أيضا إلى كنوز فاروق شوشة، وربما فعلت ذلك أيضا الإذاعة المصرية التي كان شوشة علمًا من أعلامها، بل كان إلى حقبة طويلة علمها الأول، يعطيها من هدوئه وخلقه وعمقه، ويبعد عنها سمعة الصُراخ والتحريض وصفارات السياسة.
كنت أتمنى أن تُقام لفاروق شوشة جنازة وطنية رغم ارتباك مصر الرسمية بأوضاعها المربكة حقًا. جنازة يسير فيها على الأقل وزير الثقافة ممثلاً رئيس الدولة، وشيخ من الأزهر ممثلاً الصرح الكبير. لكن ربما كان الجميع أسير المفاجأة المحزنة للعرب جميعًا، وليس لمصر وحدها. كان فاروق شوشة من الجيل الذي اعتُبر امتدادًا لجيل العمالقة الكبار الذين استضافهم جميعًا في برنامجه الإذاعي الراقي. ولست أعرف في رقي ذلك البرنامج سوى برامج الإذاعة الرابعة في بريطانيا. شخصيًا، سوف أفتقده كصديق وأستاذ وزميل تشرّفت به المهنة.
التعليقات