المفكر التونسي الشرفي : النخب الحاكمة اليوم لا تولي عناية للمسألة الثقافية لأنها تكنوقراطية

روعة قاسم

 

 الدكتور عبد المجيد الشرفي هو أحد أبرز الباحثين والمفكرين التونسيين في دراسة الفكر الإسلامي وعلاقته بالحداثة. تحدث في هذا الحوار مع «القدس العربي» عن الصعوبات التي تواجه المجتمع التونسي في مساره الديمقراطي، معتبرا ان المجتمع التونسي يبحث عن قيمه وهويته في خضم المتغيرات التي تشهدها المنطقة. وبين ان الانتخابات الأخيرة أظهرت ان ليس هناك تونس واحدة بل «تونسان»..تونس الساحل المنخرطة في الاقتصاد الحديث وفي الثقافة الحديثة و«تونس الداخل» المقصية وهي غير مستفيدة. 
○كيف تفسر الصعوبات التي تواجه المسار الانتقالي التونسي وهذا التوتر بين الأطراف الفاعلة سواء السياسية أو النقابية وغيرها؟ 
• المجتمع التونسي يبحث عن نفسه، فهو لا يجدها في القيم التقليدية ولا في الجديدة ولا في القيم القائمة الآن وهناك مشاكل حقيقية في هذا المستوى. هكذا أفسر الصعوبات، فهي اقتصادية ومرتبطة بالصعوبات النفسانية والاجتماعية والثقافية. لو لم تكن هذه الأزمات موجودة لاستطعنا ان نخرج من المشاكل الاقتصادية بسهولة. الألمان بعد الحرب العالمية خرجوا بسهولة من الدمار وبناء المدن لان المواطن منضبط. طبعا هناك ديمقراطية ومشاركة في الحكم لكن في الأساس المواطن الألماني منضبط. أما المواطن هنا فقد نشأ على أمرين متناقضين في ثقافتنا العامة وهما الطاعة والتمرد، لذلك هو ينتقل من الطاعة إلى التمرد بشكل مباشر. لم ينشأ على المشاركة في الحياة العمومية باعتباره طرفا فيها. 
○هل الأمر ينطبق على الأحزاب اليوم، مثلا في المشهد السياسي الحزبي نجد الانتقال السريع من الحكم إلى المعارضة؟
•بالطبع نحن نلمس التقلب في كثير من الظواهر سواء السياسية وغيرها وبناء ثقافة جديدة مهمة صعبة ولكنها ليست على عاتق الأحزاب السياسية. وفي رأيي الخاص ان النخب الحاكمة اليوم لا تولي المسألة الثقافية العناية الكافية، فهي نخب تكنوقراطية وتتصور انها إذا ما حسنت الطرقات ونظفت المدينة وبنت المساكن ووفرت الشغل فإنها ستقضي على المشاكل الاجتماعية لكن لا بد بالإضافة إلى هذا كله من الاعتماد على المستوى الفكري والثقافي الذي يكاد يكون مهملا. 
○وما سبب الاهمال فيما يتعلق بالمسألة الثقافية؟
•نلاحظ مثلا ان برامج التربية والتعليم في أغلبها جيدة لكن المباشرين للتعليم في حاجة إلى تدريب لكي يستطيعوا تنفيذ تلك البرامج حسب مستوى التلاميذ وتطلعاتهم والقيم التي يسعى المجتمع للوصول إليها وإلى غير ذلك، وهذا الأمر غير متوفر. 
انها ليست مهمة وزارة التربية فقط بل مهمة وزارة الشؤون الاجتماعية والأسرة وغيرها. وأيضا الإعلام له دور كبير في هذا، فنحن نلمس الاهتمام بما هو طقسي وشكلي وإهمال ما يوفر الغذاء الروحي للشباب، لهذا نلحظ ارتفاع أعداد الشباب المقبل على الجهاد والانخراط في الحركات الإسلاموية، فهو يبحث عن ملء الفراغ وإيجاد معنى لحياته عند هذه التنظيمات التكفيرية وهذا لا يوفره له الخطاب الديني السائد سواء الرسمي أو المعارض. الإسلام السياسي يدعو لتطبيق «شرع الله» والحكومات –في منظوره- وجدت لتطبيق الشرع. لكن السؤال ماذا هناك بعد تطبيق الشرع؟ فهناك بلدان تدعي انها طبقت الشرع وهي تعيش على وقع خطر الحركات الإرهابية والخلايا الداعشية إضافة إلى تجذر المشاكل الاجتماعية . 
○كيف تفسر إقبال الشباب على الانخراط في الجماعات التكفيرية، أليس ذلك غريبا عن تونس الفكر والحضارة والانفتاح؟
•هم شباب غير محصن ضد الحركات الأخرى لا من حيث التعليم ولا في نطاق الأسرة، وهذا بفعل عوامل عديدة منها مناخ الحريات التي ضمنته الثورة. هؤلاء الشباب أصبحت لديهم تصورات عن الإسلام – يعتقدون انها صحيحة –وهي مختلفة عما أخذوه من العلماء التقليديين بتنوعاتهم واختلافاتهم بين المدارس الفقهية والكلامية والفلسفية.
هؤلاء الشباب باتوا يسمعون لأول مرة مفاهيم جديدة وخطيرة عما يعتبرونه إسلاما وباتوا لقمة سائغة للجماعات الإرهابية. وللأسف فإن المدرسة أو المحيط الاجتماعي لم يؤمن لهم الحصانة التي تباعد بينهم وبين هذه الأيديولوجيا المتطرفة.
ويبدو جليا ان الحركات الإسلاموية استفادت من الفراغ السياسي الذي كان موجودا فملأت الساحة بامكانياتها المالية الرهيبة وأنفقت المال في تجنيد هذا الشباب ضمن إطار استراتيجية كاملة وبالفعل شبابنا لم يكن محصنا. صحيح ان المجتمع التونسي ليست فيه أقليات دينية أو مذهبية أو لغوية وغيرها لكن انتخابات 2011 والانتخابات الأخيرة بينت انه ليست هناك تونس واحدة بل «تونسان» إن صح التعبير، تونس الساحل المنخرطة في الاقتصاد الحديث، وفي الثقافة الحديثة وهناك «تونس الداخل» المقصية وهي غير مستفيدة من هذه التنمية. فكل النتائج الانتخابية قد أكدت ان الذين صوتوا للمنصف المرزوقي أو غيره قد تأثروا بخطاب «المقصيين والمهمشين» فهو والهاشمي الحامدي رئيس تيار ما يسمى بالمحبة يمتلكان تقريبا الخطاب الشعبوي نفسه لكن ذلك لا ينطلي على الذين انخرطوا في دائرة التنمية وقطفوا ثمارها الاقتصادية والثقافية. بصفة عامة هذه الجهات لا تجد حياة ثقافية بأتم معنى للكلمة، والآن بعد الثورة هناك حديث عن انعاش ولكن من قبل كان هناك فراغ تام.
○البعض يتهم النظام السابق وحتى الزعيم بورقيبة بأنه غذى هذه السياسة فإلى أي مدى يصح هذا الكلام ؟
•صحيح ..أعرف مثلا جهات قفصة وعملت مدرسا فيها في الستينيات وكانت تفتقر لأي نشاط ثقافي وقمت بمبادرة فردية مع مجموعة من الزملاء بإنشاء نادي السينما. بصفة عامة كان هناك تعطش للمعرفة ولاحظت قابلية كبيرة لدى أبناء المنطقة لهذه الثقافة الجديدة.
كما ان هناك حركة مسرحية في القيروان وحركة فنية مختلفة في مناطق عدة لكنها كلها لم تكن كافية، لأن الدولة استثمرت أساسا في الساحل وهناك دراسات تبين بالأرقام ان الدولة استثمرت في المناطق الداخلية بمقادير قليلة بالنسبة لما انفقته في الاستثمار في الساحل. الاقصاء تفاقم مع انسحاب الدولة من حياتنا الاقتصادية. رغم كل شيء النظام كان يمول التعليم والصحة والثقافة الآن هناك املاءات من صندوق النقد الدولي وخيارات مافيوزية، ولذلك ترك انسحاب الدولة فراغا وهذه عوامل متضافرة لكن لا يمكن ان نفسر الظاهرة بعامل واحد بل هناك عوامل عديدة متضافرة داخلية وخارجية.
○وهل تعتقد ان الحكومة لديها خطة واضحة للتواصل مع الأقاليم؟
•إلى حد الآن الحكومات المتتالية ما زالت تترنح ولا أظن انها توصلت إلى خطة للتواصل وهذا انطباعي. ليست هناك إرادة لادخال الأقاليم في الحركية الاقتصادية، عمليا هناك تعثر وربما الحلول لن تأتي خلال السنوات القليلة المقبلة وهي تحتاج لوقت ربما.
نحن لا نشعر ان هناك خطة طموحة وعلمية وسريعة للنهوض بالمناطق المهمشة خصوصا ان النخب في هذه المناطق نزحت عنها. فالمنطقة مقصية ومنسية ومن سوف يسهم في تنميتها ان لم يكن أبناؤها؟ نحن لا نجد أبناء المنطقة حريصين على تنميتها فهم جاءوا إلى العاصمة أو صفاقس وغيرها من المدن الكبرى. 
○لو توضح لنا الدور الذي يقوم به بيت الحكمة الذي تديرونه في النواحي الثقافية في تونس؟
•نحن نقوم بامكانياتنا المحدودة بتعزيز قيم الثقافة. لدينا تقاليد أكاديمية راسخة ولدينا مهمة التوفيق بين العلوم والآداب والفنون وتجميع كل هؤلاء السادة والسيدات الأطباء والكيميائيين والرياضيين والفنانين والسينمائيين والنحاتين والقصاصين والمؤرخين والجغرافيين حول مشروع واحد. ومن برامجنا المستقبلية إيجاد موسوعة تونسية مفتوحة على الانترنت تضم كل ما يتعلق بالتاريخ وبالطيور والنبات أو الفنون أو أي ميدان آخر. صحيح ان مجمع «دار الحكمة» له وظيفة ثقافية لكن أيضا هو يحرص على دراسة المشاكل التي يعاني منها المجتمع. لقد أقمنا يوما دراسيا حول ظاهرة الانتحار وحاولنا ان نضيء على هذه المشكلة من الناحية التاريخية والاجتماعية وليس فقط النفسية.
○ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في كل هذا؟
•يعاب على المثقفين انهم يعيشون في عالم آخر. أنا أقول يا ليت لنا أبراجا عاجية حقيقة، لأن الأبراج تشع. الثقافة التي نسعى إليها هي ثقافة علمية أو فنية أو أدبية راقية ويجب أن يستفيد منها أكثر ما يمكن من المواطنين ضمن الامكانيات المتاحة.
نسق تغيير العقليات بطيء وهذا يتطلب مناخا ولا بد ان يترتب على هذا التغيير بروز ثقافة جديدة متناغمة مع متطلبات المجتمع الحضاري لكن لن ينشأ ذلك بين عشية وضحاها بل يتطلب وقتا قد يطول أو يقصر. أنت لا تستطيع ان تضغط على زر لتخلق ثقافة أدبية وإبداعية بمستوى عالمي، بل لا بد من تراكم التجارب والخصوصيات والفوارق بين المدارس وما إلى ذلك لكن ليس هناك حلا آخر. لا أرى ان العائق اقتصادي مثلا لأن هذا الأمر يمكن تجاوزه لكن إذا لم تكن الحرية موجودة فكيف تنمي الثقافة؟ عندما نلاحظ ان دولا عديدة لها رقابة على المنشورات ومعارض الكتب في عصر الانترنت حيث كل كتاب يمكن ان يتوفر على الانترنت خاصة أن الكتب الممنوعة تلقى رواجا أكثر، غباء الرقابة ينعكس على المستوى الثقافي التي أصبحت إما طاعة أو تمردا. نريد مشاركة ديمقراطية ومواطنة ونريد ان يكون المواطن حرا ومسؤولا في الآن نفسه والتربية على هذه القيم تتطلب وقتا وأجيالا جديدة. المجتمعات الديمقراطية في الغرب بدورها ليست في وضع جيد فهي تعيش أزمة تتمثل في صعود الحركات اليمينية المتطرفة وذلك بسبب عدم المشاركة في الحياة السياسية، لأن الطبيعة تأبى الفراغ والسياسة كذلك، فهناك بحث الآن في الغرب عـن أشـكال جـديدة من المشـاركة السـياسية. مثلا هناك تفكير في أشكال من الاستفتاء المحلي، لأن الاستفتاءات الوطنية كانت أحيانا كارثية وما حصـل في بريطـانيا ندم عليـه كثـير من البريطانـيين.
الديمقراطية الغربية ليست وصفات جاهزة، علينا ان نبحث عن أشكال من الديمقراطية تأخذ بعين الإعتبار ظروفنا الخاصة ومصالحنا، مثلا ظروفنا في تونس تختلف عن مصر أو لبنان. وزن النقابات في تونس مثلا ليس له مثيل في الدول العربية الأخرى، ووزن الجيش في مصر ليس له مثيل في لبنان، فلكل منطقة ودولة مفاتيحها المؤثرة ولا بد أن يكون الهدف واضحا والبحث عن الوسائل الموصلة إلى هذا البحث يجب أن يراعي الظروف المحلية دون القفز على هذا الواقع.
○في رأيكم ما تأثير سباق الانتخابات الأمريكية على الوضع في الشرق الأوسط؟
•الولايات المتحدة برمجت لمشاركة الإسلاميين في الحكم في البلدان العربية وشجعت على ذلك وفرضته بوسائل مختلفة، وألمانيا ودول الغرب الأخرى تتبع فرنسا والولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة نشعر ان هناك نوعا من العدول عن هذه السياسة الأمريكية وهناك تغيير لكن السياسة الأمريكية تشبه القطار. يعني لا يمكن ان يغير اتجاهه ولا بد له من إكمال الطريق.هناك مؤسسات تصنع القرار ولا ينبغي ان تنفذ ما يقوله الرئيس الأمريكي. فهذه المؤسسات راهنت على الإسلام السياسي وهي الآن تراجع حساباتها.