عبد الرحمن الراشد
شرق حلب تعيش أيامًا حالكة مأساوية، لا تستطيع الكلمات ولا الصور وصفها، حيث تقوم المقاتلات الروسية بقصف المدينة، وقوات الأسد وميليشيات إيران تهاجم أطراف المدينة، وميليشيات حزب الله تتولى قطع طرق الإمدادات الخارجية التي تربطها. وقد دمرت خمسة مستشفيات، وآخرها مستشفى للأطفال قصفته الطائرات مستخدمة غاز الكلور، ولم تعد هناك أماكن ينقل إليها آلاف الجرحى.
معظم الهجوم يتعمد استهداف المواقع المدنية التي لا يوجد فيها مقاتلون. أما لماذا، السبب أنهم يريدون تعظيم المأساة، ولي ذراع العالم، وتشريد ما تبقى من السكان باتجاه الحدود التركية. لهذا رفضوا طلبات تمرير العون الإنساني الدولي، ورفضوا اقتراح تركيا والأمم المتحدة بمنح المدينة إدارة ذاتية، ورفضوا أي حل لوقف المأساة، وتستمر عمليات التدمير الواسعة على مدار الساعة. وكما قالت إحدى السيدات إنها تلجأ إلى النوم هربًا من المأساة.
مع هذا يقول وزير خارجية النظام، وليد المعلم: «لن نقبل بحل الإدارة الذاتية للمدينة، ولن نسمح بإيصال الإغاثة إلى المدينة، ولن نقبل بترك شرق حلب، بما تبقى من سكانها الـ275 ألف رهينة لستة آلاف إرهابي».
والحقيقة هي عكس ذلك، فقوات الأسد وحليفتاه إيران وروسيا هي من تستخدم السكان رهينة. تحاصر وتهاجم المدينة، ضمن سياسة تجويع أهلها، وتهدم المنازل وتستهدف المستشفيات، ضمن خطة لجعل حلب غير قابلة للسكن، وليس فقط للقضاء على ستة آلاف من الجيش الحر.
مذبحة حلب التي تجري أمام ناظري العالم، ولا يفعل أحد لوقفها غير النداءات الشفهية، هي الأرضية التي تمهد للمرحلة المقبلة من «حروب» سوريا، حتى لو تمكن النظام السوري من اكتساح آخر موقع يتحصن فيه المقاتلون، من الجيش الحر، والاستيلاء عليه.
الذين نتحدث عنهم مقاتلو الجيش الحر، ولا يشمل مقاتلي الجماعات الإرهابية، بما فيها «جبهة النصرة»، التي يتعمد النظام، وحلفاؤه، عدم التعرض لهم، حتى يستخدمهم مبررًا جديدًا، كما يفعل الآن، لإكمال مشروعه بالتهجير والسيطرة بحجة مقاتلة إرهابيي «داعش» و«جبهة النصرة». ومنذ اتساع القتال في العام الماضي، فإن جيش الأسد، وميليشيات حزب الله، والبقية من الجماعات الشيعية المتطرفة، مع سلاح الجو الروسي، لم يقاتلوا «داعش» كما تعهدوا، وكما دأبوا على إعلانها في بياناتهم. الذي يقاتل «داعش» في الرقة، وبقية مناطق المواجهات مع الإرهابيين، هو تحالف الولايات المتحدة، الذي سهل المهمة على تحالف إيران - الأسد، فقوى شوكة الميليشيات الشيعية المتطرفة التي تفرغت لمقاتلة أهالي مناطق، تقريبًا كلها سنية، من أجل تثبيت حكم طائفي علوي يتبع أقلية صغيرة جدًا. ما يحدث اليوم عمل مجنون حقًا، له تبعات عميقة وطويلة في المستقبل القريب.
ما هي المرحلة المقبلة بعد سقوط الأسد؟ سيضعف الجيش الحر، وقد يتشتت، الذي مثل القوة الرئيسية المقاتلة ضد النظام في السنوات الخمس الماضية، ويعبر عن غالبية السكان. وسيترك كثير من المقاتلين صفوفه لينضموا إلى جماعات إسلامية متطرفة مسلحة، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرها. وقد يتساءل البعض ما الفارق بين «الجيش السوري الحر» و«جبهة النصرة» مثلاً، ما دام أنهم جميعًا يقاتلون الأسد؟ الفارق كبير، هو في الهدف من القتال. مقاتلو «الجيش الحر» سوريون هدفهم وطني، تحرير أرضهم وبلدهم من النظام الذي يختلفون معه. أما مقاتلو «جبهة النصرة»، وغالبيتهم سوريون، بخلاف «داعش» معظمهم أجانب، فهدفهم ديني، ما يعتبرونه مقاتلة الكفار، حيث يؤمنون بأن معظم الناس كفار، بما فيهم مواطنو بلدهم من سوريين سنة، ويطمحون لإقامة خلافتهم المتطرفة و«الجهاد» في أنحاء العالم.
مذبحة حلب التي تدور اليوم، وكذلك في ريفي إدلب وحماه، ستدفع آلاف السوريين للانضمام إلى «جبهة النصرة»، لأنهم الفريق الوحيد المتبقي المستعد لمقاتلة النظام، ومن خلالهم يمكنهم الانتقام من أعدائهم السابقين والعالم كله. لا نتحدث هنا من باب استجداء الدعم للجيش الحر لكن ما يفعله اليوم الروس، والإيرانيون، وحزب الله، والنظام، لن يصبح من الماضي نتيجة التمزيق الطائفي والقتل الواسع للمدنيين والتشريد الممنهج.
شرق حلب قد تسقط خلال أيام، وقد تعقبها مدن أخرى، إنما الأزمة ستتسع، وسيتضاعف الخطر على المنطقة والعالم.
التعليقات