تركي الدخيل

جاهل من يظن أن الرحلة ابتدأت أمس، يوم زار الملك سلمان، المنطقة الشرقية من السعودية.. فقبل ثمانين عامًا قدم الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - بنفسه لهذا المكان، رغم وعورة الطرق، وبعد المسافات، ليدير عجلة الزمان بيمناه.. كي يتدفق النفط بكميات تجارية بعد عام واحد من اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية.
قبل أعوام سماها الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - بئر الخير، واليوم يقف أبناؤكم المهندسون صفًا واحدًا، ليقدم كل من مكانه في الصحراء العربية الكبرى تقريرًا موجزًا عن كل مشروع يا خادم الحرمين الشريفين.
خلف الشاشات العريضة اصطف مهندسون من كل جهات هذا الوطن الكبير، كي يقدم كل منهم فكرة عن المشروع الذي يشرف عليه، يلقي التحية، يعرف بنفسه، ومن ثم يتحرك في الزمن ليختصر مجهود سنوات الحفر والبناء.. كي يختم بامتنان قدوم الملك سلمان بن عبد العزيز، لتدشين كل هذه المشاريع، التي تنتظم عقدًا، منذ قدوم الملك المؤسس الذي كان يرى البعيد قبل أن يخرج النفط من باطن الأرض.. كي تزهر الحدائق والجامعات، ويأتي الموظفون من كل جهات الأرض.. كي تكون شركة الزيت العربية (أرامكو)، بمجهودات أبناء الوطن، أكبر شركة لإنتاج الطاقة في العالم اليوم.
ارتبط اسم «أرامكو» السعودية منذ تأسيسها بالدقة والمهنية والإنتاجية العالية، ولم تقتصر على دورها بوصفها شركة لإنتاج الزيت، بل شاركت في بناء المدارس، وزرعت الأراضي وخططت المدن.. أشرفت على بناء الملاعب، حتى لنصف قرن وأزيد، كانت وما زالت ترسل مجلة «القافلة» مجانًا لكل جهات الأرض، والأهم من ذلك كله - في نظري المتواضع - أنها أحلت الإنسان السعودي في قلب كل مشروع.
استقطبت أنجب أبناء هذا الوطن الكبير كي يتقدموا بالطموح إلى مناصب بدأت بالمهندسين، والعمال المهرة من أميركا والشركات النفطية العملاقة مستثمرة في الإنسان السعودي، حتى أصبح كل هؤلاء الواقفون خلف الشاشة، أمام الملك، أبناء هذه الأرض.. منها يخرج النفط، وعليها، وفوق أرضها رجالها الذين يباتون في الصحراء، كي تُضاء مدن العالم من هذه الصحراء الخيرة المعطاءة مذ أدار والدك صمام إنتاجها الأول.
القدرة على الحلم والإصرار، على متابعة الفكرة مع الحكمة التي لا تتراجع عن الاستثمار في الإنسان أولاً، هي عادة ملوك المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، وليس غريبًا أن تكون الثقافة مُخرجًا طبيعيًا للنفط، ما دام الإنسان هو من صنع كل هذا، وليس جديدًا على «أرامكو» أن تعنى بالثقافة، ليدشن الملك اليوم مع كل هذه الإنجازات الصناعية افتتاح مركز الملك عبد العزيز الثقافي في المكان ذاته، ما دام الإنسان هو من اكتشف، وهو من حفر، وشق الأرض، فإليه انتهاء كل شيء.
من دون الفكرة التي مشى إليها المؤسس، وبارك خطاها بالأمس، الملك سلمان، ما استوى حجر على مبنى، ومن دون همة الرجال ما وقف هذا الصرح الثقافي الشامخ مرددًا مع الشاعر الأول:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا
ولم يتغيرا بتغير الحدثان
كان ممتعًا الاستماع إلى تعريف كل منجز بإيجاز أمام الملك، الذي يبارك، ويبتسم، ويعلق بحكمة المستمع الخبير، والأمتع تعليق الملك الجميل، حين انتهى المهندس الجامع بقوله كلمة الربع الخالي في معرض توصيفه لمنطقة الإنجاز التي يمثلها، حينها فقط علق الملك سلمان بعين من رأى الربع خاليًا، وممتلئًا مع حركة الزمان: «لم يعد الربع خاليًا كما ترون اليوم»، وتلك عادة الملوك في إعادة تعريف الجغرافيا حين يأتون من رحم التاريخ، ليعيدوا تسمية الأشياء من جديد، وكذلك يفعلون.