فيصل الجهني

كتب الأستاذ عبدالله الرشيد مقالا مهما في (عكاظ 19صفر المنصرم)، يتحدث فيه عن أهمية دراسة (الفلسفة) في التصدي لأشكال التطرف والعنف والإرهاب، التي ابتلينا بها في بلادنا، في حالة لم يسبق لها مثيل!
وعندما أقارب هذه المقال من خلال هذا (النثار)، فإنه ليس لدي (خيار) سوى الانحياز لمضمون نداء الأستاذ (الرشيد)، لأن الفلسفة (كتعبير عقلي منطقي) قادرة على مواجهة كل أشكال العنف والتطرف، باتساع فضائها الفكري، وبكونها -حقا- زاخرة بالقيم الإنسانية التي تحقق التناغم بين البشر باختلاف أجناسهم ودياناتهم وأعراقهم..
كما أجدني منحازا أكثر لاستثمار حضور (الفلسفة) في امتلاك منهجية التفكير الفلسفي والمنطق المحايد والتفكير النقدي الحر، الذي يظل في (ديالكتيك) إيجابي حر مع المسلمات الخاطئة والأفكار المبتذلة الموسومة بأطياف الخرافة والأسطورة..
حقيقة، فإني لطالما (قاربت) الموضوع من زاوية الضرورة الحتمية لامتلاك المتعلمين وطالبي المعرفة والمشتغلين بالبحث والدراسة (المنهج العلمي)، الذي بواسطته يمكن استثمار كل ذلك الزخم الهائل من المعلومات التي تحيط بنا كل جانب، ومن كل جهاز، وعبر كل قناة.
وهذا مما يفسر لنا وجود الكثير من أصدقاء الكتب والمكتبات غير القادرين على إنتاج رؤية معرفية واحدة متسقة القرائن والشواهد، كما يفسر لنا عدم استفادة طالب التعليم العام والتعليم الجامعي من الكمية المهولة من المعلومات في العلوم المختلفة، حيث نجده حيران وجلا، ضائعا في متاهات الكتب والمراجع والمحاضرات، لا يعرف لها غاية، ولا يعرف منها الدعائم المعرفية الإجرائية التي أرست تلك العلوم عليها تجلياتها، على مستوى المضامين، وعلى مستوى الأدوات والأشكال، من رؤى وأفكار ونظريات وو...!!
كما أن غياب ذلك المنهج العقلي يفسر لنا كثيرا من المشاهد في واقعنا المحلي، كتلك الأحكام الجاهزة، التي تطلق بين الحين والآخر عند تصنيف الشخصيات والكتب والخطابات الأدبية والفكرية..
كما يفسر لنا -بشكل أكثر إيلاما وخطورة- غياب إنسان الحضارة.. الإنسان الحديث.. خليفة الله على الأرض، والذي كان وجوده سببا في نشوء كل الحضارات البشرية شرقا وغربا.. الإنسان الذي تتجلى أبرز سماته في: (الرغبة الجادة في إعمار الوطن/الكون -الانفتاح على تجارب الآخرين، الاستقلال الذهني عن سلطة الرموز البشرية.. دينية أو تعليمية أو ثقافية- الابتعاد عن أسر الهويات المزعومة- الثقة بقدرة الذات على اتخاذ دور فاعل في الشؤون المدنية المجتمعية والسياسات المحلية- الإيمان بأهمية العلم وانحسار ذهنية الخرافات والأساطير التالدة، وقيود القدرية المفرغة كلية من اتخاذ الأسباب الدنيوية المشروعة)!
على سبيل المثال.. لو أننا امتلكنا ذلك المنهج المفضي للثقافة الحقيقية، لكنا (تغربلنا) عندما نريد الخوض في موضوعاتنا المتكررة، كالموقف من (المرأة)، ونحن نخوض في كل شؤونها، التي تظل متحولة بتحول الزمن: دراستها وعملها وسفرها ورياضتها وقيادتها لنفسها قبل مركبتها المستحيلة طبعا!
إذاً، فغياب (المنهج العقلي المنطقي) هو الغياب المرير لآلة الوعي الصحيح، التي تجعل الذهنية الجمعية تنظر للأشياء والكون والحياة نظرة متزنة.. معقولة.. منصفة.. منتجة على السواء!
أما بالنسبة لأشكال التطرف والإرهاب (والتي جعل الأستاذ الرشيد الفلسفة عاملا رئيسا في القضاء عليها داخل مجتمعنا)، فإني أزعم بأن ثمة إجراء حتميا وحاسما يجب النهوض به قبل كل شيء، وهو ضرورة القيام بإجراءات حقيقية ودقيقة للتخلص من تصادم خطابات المؤسسات المسؤولة عن (تشكيل) الوعي الجمعي، وأعني بها المؤسسات الدينية والتعليمية والتربوية والإعلامية والثقافية بتجلياتها المتنوعة، لأن الكثير من معطيات الثقافة الحقيقية -على سبيل المثال- القادرة على صياغة المجتمع صياغة حوارية منسجمة، بلا عنف وتطرف، يصطدم ببعض وصايا الوعظ في المنابر والتلقين في المدارس، وإلا كيف يقرأ طلابنا ومعلمونا خطابات ديكارت ونيتشه وهيجل مثلا؟
ومن جانب آخر فإن ذلك (الصدام) جعلنا حتى اللحظة لا نقدر على حل مشكلاتنا مع الأجناس الثقافية في طابعها الأدبي والفني: الشعر الحديث والرواية والمسرح والسينما والموسيقى، والتي من شأنها أن (تحرر) روح الإنسان من نداءات حاجاته النفعية ومخرجات واقعه المأزوم، والعودة به إلى زمن الفطرة الأولى، بلدائنها الودودة المتعطشة للحب والجمال، ليسمو بنفسه (النقية) عندئذ فوق كل صراع وعنف وإرهاب.
أخيرا.. أشعر بأن للحديث (بقية).. لا أدري متى (ستكون)؟ أتعلمون لماذا؟ لأني ظننت أن هذه (المقاربة) لا تحتاج لـمنهج، قبل الكتابة، فوقعت في (الفخ) نفسه، الذي قادني اللحظة لذلك الشعور المضطرب!