محمد عاكف جمال

الأوضاع السياسية بالعراق في أشد حالات الاحتقان وعلى أعلى المستويات وفي معظم المحاور، احتقان ربما هو الأكثر شدة وخطورة منذ سقوط النظام السابق..

فهناك عجز كبير في ميزانية الدولة وأزمة اقتصادية عميقة الجذور بسبب التراجع الكبير بأسعار النفط وكلفة الحرب على تنظيم داعش وسوء الإدارة وتفشي الفساد في أوصال الدولة.

وهناك أزمات سياسية على أصعدة مختلفة أبرزها تفاقم الخلاف داخل المؤسسة الحاكمة نفسها، أزمة كشفت عن حجمها بفشل لقاء المائدة المستديرة المغلق الذي عقد في مدينة كربلاء في السادس من مارس الجاري والذي شهد تغييب رئيس كتلة دولة القانون نوري المالكي وخروج الصدر من الاجتماع غاضباً وتعليق حضور كتلته اجتماعات التحالف الوطني.

من جانب آخر تذكي الخلافات الشديدة حول تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش التي نشبت بين رئيس الوزراء الذي أعلن عن موافقته على مشاركة قوات الحشد الشعبي في معركة تحرير المدينة وبين مجلس محافظة نينوى وقوات البيشمركة الكردية الرافضة لوجود هذه القوات في أرض المعركة الحساسيات الطائفية من جديد بعد أن تراجعت بعض الشيء لبعض الوقت.

والحقيقة أن سياسيي المنطقة الخضراء الذين تصدروا المشهد السياسي العراقي على مدى أكثر من عشر سنوات منذ سقوط النظام السابق ليسوا فقط عاجزين عن مواجهة هذه الانغلاقات في الحياة السياسية بل هم مسؤولون مباشرة عنها وعن تفاقمها، وهم في الوقت نفسه غير مستعدين للتنازل عن المواقع القيادية في الدولة رغم فشلهم الذريع لصالح عراق ديمقراطي حقيقي يستند إلى ثقافة مدنية في بناء مؤسساته.

من جانب آخر ليس هناك معارضة حقيقية في مجلس النواب وليس هناك معارضة ملموسة على مستوى الشارع قادرة على إرغام الطبقة السياسية الحاكمة على القيام بإجراء إصلاحات حقيقية وليست ترقيعية. فعلى مدى يقرب من عام دأب التيار المدني على إدامة تظاهرات سلمية أسبوعية في أيام الجمعة للمطالبة بتنفيذ إصلاحات ذات طبيعة مدنية حضارية لتلافي المزيد من التردي في الأوضاع السائدة في العراق..

إلا أن تلك التظاهرات بدأت تفقد زخمها مع مرور الزمن وتحولت لاحقاً من الناحية العددية إلى بضع عشرات يشكلون صوتاً غير مسموع في الوسط السياسي الذي تسيطر عليه الأحزاب الدينية الطائفية التي تهيمن على مقاليد السلطة ..

وعلى المال والسلاح وسط أجواء تمور بالأحداث الساخنة، فالتيار المدني يستند بشكل أساسي إلى ما لدى اليسار السياسي العراقي من قدرات جماهيرية ضئيلة لا تقاس بما كان لديه في خمسينيات ومطلع ستينيات القرن المنصرم.

لهذه المتغيرات بكل تأكيد استحقاقاتها، فالمسؤولية القيادية عن كل ما يتعلق بهذه التظاهرات قد انتقلت إلى أيدي الغاضبين بما في ذلك التوقيت وصياغة الشعارات وطرائق عرضها ورسم خطط التصعيد وربما التصادم مع الجهات الأمنية، خاصة أن البعض قد كرر تهديداته بأنه في نهاية المدة التي وضعها رئيس الوزراء العبادي لإجراء إصلاحاته سيقوم أتباعه باقتحام المنطقة الخضراء مما قد يحمل التيار المدني مسؤوليات قد لا يكون راغباً في الاضطلاع بها وقد لا يكون قادراً على تحمل تبعاتها، خاصة حين تستهدف الجهات الأمنية هذه التظاهرات..

في حال التصادم سيكون شخوص التيار المدني الأكثر استهدافاً لأنهم يعتبرون من النخب الثقافية القادرة على التأثير فكرياً في الجمهور على عكس الغالبية العظمى من المنتسبين للتيار الصدري المهمشين في أطراف المدن وفي الأحياء الفقيرة وفي العشوائيات وعلب الصفيح التي لا تصلها أية التفاتة خدمية إنسانية والذين اعتادوا على الانقياد بشكل غير واعٍ لأوامر رجال الدين.

من جانب آخر فإن التيار هو حركة سلمية لم يصدر عنها أية ممارسة تتعلق بتخطي القانون أو باستخدام أي شكل من أشكال العنف، في حين يمتلك التيار الصدري سجلاً حافلاً بأعمال العنف منذ تأسيسه بعد سقوط النظام السابق بفترة قصيرة في ظل ضعف الدولة ومؤسساتها ..

إلا أن هذا الدور قد تراجع بعد حصول بعض الانشقاقات في صفوفه وبعد قيام بعض أتباعه بعمليات تدخل في باب التصفيات الطائفية مما استوجب قيام الدولة باتخاذ إجراءات رادعة بحقه خاصة في صولة الفرسان عام 2008.. الوضع في العراق مرشح بقوة للتصعيد ولعودة أعمال العنف وللمزيد من الانفلات الأمني.