&صالح الديواني

السياسات الأميركية في الغالب لا تخضع إلا لما يحقق المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، واضعة أهم أولوياتها المحافظة على مستوى معيشة المواطن الأميركي وطريقته في العيش، وخارج هذا الإطار تبدو كل التوجهات السياسية ضعيفة لا تحظى بدعم كل الأجنحة السياسية في الداخل الأميركي.

لكن ذلك اصطدم بظهور رؤية جديدة في الأوساط السياسية الأميركية إلى السطح في العقد الأخير، لا تفكر بنفس النمطية التقليدية التي تعتمد على تأمين سلامة الموارد النفطية وإمداداتها من الشرق الأوسط والسعودية على وجه التحديد، من خلال محاولة ابتزاز الدول الخليجية بعدة أساليب كان أشهرها ورقة القنبلة النووية الإيرانية، وعلى ضوء ذلك قدرت السياسة الأميركية مستوى العلاقات بينها وبين السعودية لعقود مضت، كمنهجية نجحت في تقديرها بناء على خلفيات استخباراتية عميقة في المنطقة، لكن الإدارة الأميركية لم تقدر حجم تحولات الفكر السياسي التي تحدث في المنطقة بشكل جيد على ما يبدو، وحاولت من خلال سياسة انتقائية اللعب بأوراق جديدة، كان من ضمنها ورقة الإرهاب، المصطلح الذي ابتدعته أميركا ذاتها، بعد أن شككت في قدرات الحلفاء التاريخيين على مواجهته!

ومع ظهور ما يؤرق المواطن الأميركي داخل مفردات حديثه، وأصبح يقض مضاجع نومه ويومياته خلال العقد الأخير، وتحوله إلى بعبع المجتمع والإدارة الأميركية المتمثل في الإرهاب - الذي رفعت أميركا ذاتها راية محاربته -، وتصاعد انتشاره عالمياً حتى وصل إلى عمق الأرض الأميركية واقتصادها.

حاولت أميركا الترويج لبرنامج التغيير السياسي في الشرق الأوسط، عبر قراءات تاريخية للتيارات الدينية المذهبية، الذي بنت على ضوئه خرائطها وخياراتها لمستقبله بما يحقق لها تمرير مشاريعها، وتحريك بيادقها كيفما تشاء، وعلى ذلك شرعت في دعمه وتنفيذه في العراق كنقطة أولى، في محاولة للتحضير لعملية الانتقال الكاملة لرؤيتها لاحقا، لكن ذلك سرعان ما تحول إلى كابوس، بعد أن اكتشفت أن جزءاً كبيراً من ذلك المخطط قد تم الالتفاف عليه من قبل النظام الإيراني، الحليف السياسي المستقبلي، بثبوت ضلوعه في الانتكاسات المتتالية لتحركات الحكومة الأميركية في حربها على الإرهاب، وبدأت أميركا تشعر بخلل مفاضلتها السياسية التي وضعتها على طاولة التطبيق، وأدركت ربما أن التغيير الذي تفضله لم يكن هو الأنسب في الوقت المناسب.

اليوم يرى كثير من الخبراء العسكريين في الداخل الأميركي، أن ما تفعله السياسة الأميركية لم يكن موفقاً وعلى قدر كبير من الوعي بالنتائج، وأن حساباتها تعقدت أكثر مما كانت تظن، وأن عليها أن تعيد النظر بالكامل في تلك الخيارات، بناء على حسابات النتائج على الأرض، وليس بناء على الدراسات التنظيرية، وهو ما أوحى به انتقاد ضابط استخبارات الجيش الأميركي المتقاعد (مايكل برجنت) الذي كتب مقالاً في مجلة (فورين بوليسي) – الأميركية قائلاً: "في الواقع أن تلك حقيقة مزعجة لأولئك الذين يحاولون إثبات أن هناك مساواة أخلاقية بين إيران والسعودية، إذ إن طهران هي من تواصل تخريب الجهود الأميركية في مكافحة الإرهاب. ومن المرارة أن تسعى واشنطن إلى تطبيع العلاقات مع طهران، فالأفعال الإيرانية سيئة بما فيه الكفاية، وحلفاؤها من المنظمات الإرهابية في المنطقة أسوأ من ذلك بكثير، وقد أعلنت المملكة إدراج "حزب الله" كمنظمة إرهابية، ولم تخطئ بذلك.

ولكن نظرة أميركا لإيران كعلاج للتطرف الإسلامي العالمي وتجاهل الدور الحقيقي للسعودية وإنجازاتها الحثيثة في مكافحة الإرهاب، حماقة خطيرة. والآن وأكثر من أي وقت مضى، علينا أن نعمل مع حلفائنا في السعودية لكبح النفوذ الإيراني، ومنعه من الحصول على سلاح نووي، والحيلولة دون زيادة زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط."

وهذا البعد القرائي للسياسة الأميركية في نظرتها للقدرات السياسية السعودية من خبير قديم في الشؤون الاستخباراتية له وزنه بالتأكيد، ويوضح كثيراً من جوانب اللعبة السياسية الأميركية وخطورتها على الداخل الأميركي قبل خارجها، ويضع نقاطاً مهمة على طاولة القرارات والتطبيقات الأميركية القادمة، فاستمرار منهجية التقارب مع إيران بهذا القدر من الارتماء، لن يقدم الكثير في ظل امتلاك الرياض لرصيد ضخم على مستوى محاربة الإرهاب والقدرات على مواجهته، وتبدو الرهانات الأميركية المستقبلية خاسرة إلى حد مزعج، وهو ما لم تعتد عليه سياساتها منذ عقود في الشرق الأوسط.