&صلاح سالم

ثمة حضور ملتبس للدولة في حياة المصريين استمر نحو عقدين قبل عاصفة 25 يناير (كانون الثاني)، حيث الحضور الأمني الكثيف بغرض الضبط والقسر، يوازيه حضور سياسي خفيف لا يفي بمهمة القيادة والتوجيه. ومع انزواء الدولة كإطار يستوعب حياة الناس ويلهمهم حس اتجاه نحو المستقبل، وأيضاً ضمور الأحزاب السياسية وقصورها عن تنظيم أي فعل سياسي مستقل وخلاق، وكذلك الضعف البنيوي لمنظمات المجتمع المدني، بفعل حصارها أمنياً واقتصادياً، وتعزيرها سياسياً وإعلامياً، أخذت البدائل التقليدية في الظهور، وتحرّكت الانتماءات الدينية بالذات إلى صدارة الساحة السياسية باعتبارها الوريث الطبيعي للّحمة الوطنية، ومن ثم تعاظم دور المساجد والكنائس في مصر، وتحولت من مجرد دور للعبادة يقتصر دورها على ممارسة الطقوس الروحية، إلى مجمعات شبه متكاملة، تقدّم خدمات دنيوية متعددة لفقراء الجانبين، حتى صارت بديلاً عملياً عن المستشفيات والعيادات الصحية وتجمعات الدروس الخصوصية. كما صارت حاضنة للمآتم ولاحتفالات عقد القران وطقوس الزواج ولتنظيم رحلات ترفيهية، أو معسكرات رياضية، أو حلقات دعوة وتوعية دينية في مناطق بعيدة عن مكان الإقامة. وهكذا زادت سيطرتها على مقدرات الإنسان العادي، ولعبت دوراً أكبر في تشكيل وعيه فزادت الجرعة الدينية في تركيب الهوية الفردية على حساب القيم الوطنية العامة، ثم زاد الالتهاب مع ظاهرة الدعاة الجدد، وبفعل الخطاب الديني المتعصّب، خصوصاً في الجانب المسلم، فوقعت عشرات الحوادث الطائفية في سنوات حكم مبارك الأخيرة، تم حصارها أمنياً، من دون قدرة على تعطيل ديناميتها الاجتماعية، أو تفكيك بنيتها الذاتية.

في قلب عاصفة يناير، هبت نسائم الوحدة والتسامح على ميدان التحرير، فلم يشتبك مسلم مع مسيحي، بل بلغ التعاون بينهما ذروته، خصوصاً عند إقامة الصلوات والقداسات، وبينما كانت الأخبار تتوالى عن حرق أقسام الشرطة، ومقار الحزب الوطني يوم جمعة الغضب، لم تحرق كنيسة أو يقتحم مسجد، على رغم أن الشوارع بلا شرطة، والأمن بلا ضابط. إنها روحانية الثورة الشماء، التي غالباً ما تسود يومها الأول، إذ تسعى إلى هدم النظام القديم، فتنشأ تحالفات تلقائية سهلة في مواجهته من كل الرافضين له، والغاضبين عليه، والمتضررين منه. ولكن، يبقى اليوم الثاني هو الأصعب في مسيرتها، إذ يتعين بناء نظام جديد، قادر على تحقيق طموحات الثائرين. ولأن طموحات المصريين لم تتحقق، سواء في فترتي الانتقال أعقاب الموجتين الثوريتين، أو في ظل نظامي الحكم اللذين أنتجتهما، وظهرا كنسختين رديئتين من جمهوريات قديمة، كان طبيعياً أن تذهب روحانية الثورة، ويفقد صانعوها براءتهم الأولى، وأن يشعر الناس بالإحباط ويكفرون بالأمل، فيخرج منهم أسوأ ما فيهم، وتشتعل بينهم الفتن، ولو بوتائر مختلفة وإيقاعات متباينة.

كانت الوتيرة عالية والاحتقان شديداً في لحظة العراك بين القوى المدنية والجيش في فترة الانتقال الأولى حيث وقعت بعض الفتن، كما كان الإيقاع أكثر تلاحقاً وصخباً إبان العراك بين الجيش و "الإخوان" أعقاب فض اعتصام رابعة، حيث أُحرقت عشرات الكنائس. ثم كان طبيعياً أن يهدأ الإيقاع ويتراجع الاحتقان بانتخاب الرئيس عبدالفتّاح السيسي وتجاوب الأقباط معه وتحمسهم له، وزياراته المتكررة للكاتدرائية المرقصية، إلا أن الطائفية لم تختف بعد، كونها البنت الصغرى للاستبداد، وهو ما كشفت عنه خبرة العامين المنصرمين، حيث سيطر منهج انفرادي سلطوي على الحكم، تعدّدت معه الأزمات وتشابكت، فلا يمكن النظر، مثلاً، إلى العدوان على نقابة الصحافيين بعيداً من أزمة جزيرتي تيران وصنافير، وما شاب إدارتها من قصور، أفضى إلى حركة رفض قادها صحافيون واحتضنتها نقابتهم. وربما لم تكن لتقع أزمة الجزيرتين لو أن الوضع الاقتصادي كان جيداً، وما كان الوضع الاقتصادي ليصل إلى هذا المنحدر لولا القصور الأمني في التعاطي مع مشكلتي الطائرة الروسية، والباحث الإيطالي جوليو ريجيني، اللذين أفضيا إلى توقف حركة السياحة تقريباً وأشعلا أزمة الدولار ونار الأسعار.

في هذا السياق وقعت حادثة الكرم الطائفية، حيث أُهينت امرأة مصرية قبطية، وأُحرقت سبعة منازل لمواطنين أقباط، بأيدي متعصبين مسلمين اختطفوا القانون، ونصّبوا أنفسهم قضاة على الآخرين، إذ حاسبوهم على خطأ شخص واحد لم تثبت إدانته بعد، فأحالوا الاعتقاد الديني إلى انتماء قبلي. حدث ذلك وسط تهوين محافظ الإقليم من قيمة الحدث، وتردد الشرطة في تطبيق القانون، وضوضاء الحديث عن الحل العرفي ودور بيت العائلة الجامع بين الأزهر والكنيسة في حل النزاع مثلما جرى قبل ذلك عشرات المرات بلا جدوى، حتى تدخل الرئيس مباشرة في الأمر، وطالب بإعمال القانون فتحركت أجهزة الدولة على النحو المنطقي والطبيعي. وهكذا يتبين كيف يمكن أن يتعطل القانون، وتتقزم مؤسسات الدولة، بانتظار إشارة شخص واحد، يقبع على قمة السلطة، قد ينتبه لهذا الحدث ولا ينتبه لذلك، بحسب درجة انشغاله، فتبدو مصائر الناس ومصالحهم رهناً بالقدر وحده.

نبتت الفتنة إذاً من عجز الدولة عن إلهام المجتمع، وعن الإعمال المنهجي للقانون، باعتباره الفارق الأساسي بين حال المدنية والهمجية، والذي تختفي بغيابه كل قيمة ذوقية، وفضيلة أخلاقية، على نحو ما رأينا في قلب صعيد مصر، الذي يبدو وكأنه فقد بعض أفضل خصاله، وعلى رأسها المروءة، حيث احترام المرأة وصون الحرمات. غير أن الإعمال المنهجي للقانون يبقى رهناً بالخلاص من الاستبداد، فعندما تختفي السياسة كآلية للحوار والتفاوض والتنافس السلمي لا بد أن ينتقل الصراع إلى الهوامش الإعلامية، وتنتعش جماعات المصالح المالية، وتطفو على السطح الصراعات العبثية، وعلى رأسها الفتن الدينية التي لا تعدو أن تكون نوعاً من الطفح الطائفي على الجلد السياسي لمصر، التي تتأكد يوماً بعد يوم، حاجتها الشديدة إلى استعادة روح الأمل لدى الجبهة المدنية العريضة التي صنعت 30 يونيو (حزيران) و3، و26 يوليو (تموز) 2013 قبل أن تمزقها تناقضات السياسة، ولكن لا يزال لديها الأمل في الالتئام من جديد والعمل لنهضة البلاد بشرط إصلاح المسار. فليفتح الرئيس قلبه لكل معارضيه طالما كانت معارضتهم على أرضية وطنية، وليس لحسابات شخصية ودوافع انتقامية. وليطلق كل سجناء الرأي وقانون التظاهر وجمعة الأرض، ليتصالح مع عموم الشباب، ويدمج مشايخ السياسة من القامات الكبيرة في مؤسسة رئاسية فعالة، قادرة على استدعاء السياسة إلى الفضاء العام، ليزداد حضور الفاعلين، وتدور بينهم مساومات ومفاوضات تفضي إلى التعاطي الفعال مع الأزمات من دون حاجة إلى تدخل الأمن الذي ستتراجع سطوته على رقاب الناس بتراجع دوره السياسي في خدمة النظام.

&