&&محمد كمال&

المسلمون في العالم العربي، دون المسلمين في العالم غير العربي، يعيشون في حالة تتلاطمها صراعات طاحنة قاتلة و صرخات الطائفية منها و فيها تتعالى، و كل طائفة تريد لطائفتها أن تكون هي العليا و هي الأعلى و بقية الطوائف أتباعٌ خُنَّعٌ مستسلمة لإرادتها. وقِلَّةٌ قليلة غير فاعلة وغير مؤثرة تقف خارج ساحات المعارك تبكي على حال الأمة وتتأسَّى عليها وتتهم الطائفية على ما يجري من صراعات طاحنة تتآكل بسببها الاوطان، والضحايا بين جموع من القتلى والجرحى والمشردين والمهاجرين، ويبقى الوطن شبه مدفون، هكذا يَرَوْن فعل الطائفية في الاوطان العربية. لأن الصراع مظهره اصطفاف طائفي، فالطائفية إذاً هي عِلَّةُ العِلَلِ، ويَرَوْن أنه من أوجب الواجبات مقارعة هذه الطائفية ومحوها من النفوس في ساحات الاوطان.

الكل يتكلم عن الطائفية وكأنها علة العلل... وهذه الطائفية هي التي تفتك بالمسلمين، وكأن الطائفية غول شرير وارد إلينا ومسلط علينا خارج إرادتنا وما كأنَّ هذه الطائفية غرس في عمق نفوسنا وشَلٌّ لملكة التفكير في عقولنا... والحالة هذه، فهل هناك مسلم غير طائفي؟!!!

هل هناك مسلم بالكامل مسلم خالص الاسلام، أين ذاك المسلم الذي لا ينتمي لإحدى الطوائف المعروفة ؟ وامتداداً لهذا الانتماء الطائفي أليس هناك بجانب المسلمين طوائف أخرى غير مسلمة وهي محشورة بين الطوائف الاسلامية وقد تتحفز بعد برهة برفع صوتها ومن ثم يدها ومن ثم سلاحها... الطوائف متعددة وراسخة في النفوس، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها. فهل حقاً الطائفية بحد ذاتها هي عِلَّةُ العِلَلِ؟

لننظر الى صلب الموضوع وأساس القضية... ونتناول الموضوع من نقطة الطائفية ذاتها ونرجع بها إلى أصول تكوينها، فهي ليست من نتاج الامس القريب و لا هي من حبك مؤامرات الأعداء ضد شعوبنا الاسلامية مثلما يحلو لغالبية منا أن تروج...

الطائفية نابعة من وجود عدد من الطوائف، فكل مسلم ينتمي الى طائفة، و هذه الطائفة تولدت بدءًا وأساساً من المذهب، ومع تعاقب الزمن وتراكم تأثير التمييز في المذهب على العامة من أتباع المذهب تحول الاتباع من موقع المذهب المتسامح مع المذاهب الاخرى والمنفتح عليها إلى طائفة منغلقة على ذاتها رافضة لغيرها... في البدء مع فجر الرسالة كان المسلم مسلماً خالصاً يسترشد بفهم مشترك واحد للرسالة، ولكن ليس من طبيعة الأمور أن تبقى على حالها، والتعدد و التشرذم حالة طبيعية لكل التكوينات الفكرية والعقائدية وحتى الاجتماعية. فتعددت الأفكار والاجتهادات وأنماط الفقه في جسم العقيدة الواحدة، وتشكلت مع هذه المتغيرات مذاهب عدة. هذا مسلم على مذهب فلان، وذاك على مذهب علان... وهكذا... لكل مذهب امام واتباع... مع تعاقب الوقت وفي سعة من الزمان وتحول الحال من سلطان إلى سلطان، وبمباركة من هذا السلطان وذاك السلطان تجمع تحت عباءة المذهب مجموعة من الناس تحوم حوله وتسترشد باجتهاده وفقهه وتنتصر له وتنافس المذاهب الأخرى، وسلطان يحتضن هذا المذهب وسلطان يتحصن بذاك المذهب، وهكذا تحول المذهب عندهم الى هوية دينو- مذهبية تميزهم عن المذاهب الاخرى..

وهكذا تشكلت طائفة تتعصب لهذا المذهب، و طائفة تتعصب لذاك المذهب... وتداخل المذهب بالهوية، وتغلبت صفة الهوية ذات البعد السيكولوجي العاطفي على صفة المذهب ذات البعد الفكري الاجتهادي، وهكذا حلت الهوية بأبعادها الذاتية المنغلقة محل المذهب بأبعاده الفقهية المنفتحة..

ومع التحول من المذهب الفقهي الى الهوية العاطفية تمترس الاتباع بالهوية في قوقعة الذات الفئوية وانزلق الاتباع الى مسالك الطائفة ومنها تولدت الطائفية تعبيراً لحالة التفاضل والتباعد والتوجس والتلامز بين الطوائف، وهذه الطائفية هي الأقرب بنية وسلوكاً وروحاً إلى العشائرية و القبلية... قبلية على مقاس القبائل في عهود ما قبل الاسلام، خاصة وأن جميع الطوائف (أتباع المذاهب) مازالت تتشرب ثقافة تلك القبائل من معين أشعارها وقصص أبطالها وأحداثها وشعرائها ونسائها وتعظيم جاهلية أعرابها وأعراب جاهليتها..

فهذه الطائفية المنتشرة والمستشرية هي المنتوج القبلي لمسار الفقه في مدارس تفسير وتأويل الدين بنصوصه القرآنية وسيرته النبوية وما تضمن من أحاديث شريفة وأحاديث قدسية... فخرج الفقه والتأويل والتفسير من المسار الديني السليم والمسالم إلى مسار القبلية الجاهلية المتناحرة، وسارت على هدي تلك القبائل التي كانت تعيش وتستعيش على الغزوات المتبادلة والنهب المتبادل والسبي المتبادل وكوارث الحروب المتبادلة. وعدنا إلى حال ما كنّا عليه قبل الرسالة الاسلامية بأكثر من أربعة عشر قرناً. وكأنَّ جاهلية الأعرابَ قد انتصرت لنفسها نكاية منها للآية القرآنية التي تُكَفِّرُها...«الأعرابَ أشد كفراً ونفاقاً»...

إذاً الطائفية بحد ذاتها ليست وباءً، لأنها موجودة بموضوعية الفقه الاسلامي وواقعية الانتماء الاسلامي، ليس هناك من مسلم خالص صرف، كل مسلم يلبس ثوب مذهب، وينتمي الى مجموعة بشرية تنتمي الى نفس مذهبه، ويجد هويته بهذا الانتماء الى هذه المجموعة البشرية التي تلبس ثوب مذهبه... وانغلق المذهب في الطائفة.

حتى من ادعى أنه غير طائفي فإن الطوائف الاخرى تنظر اليه من منظور طائفي وتتوجس منه طائفياً وتتعامل معه على أساس أنه من طائفة أخرى، مثلما كل طائفة تنبذ اختها الطائفة الاخرى، ومن أشكال هذا النبذ هو التكفير المتبادل، وهو من أشد وأقسى أشكال النبذ والتنابذ... ولم يعد الاسلامُ إسلاماً خالصاً، و ذاك الاسلام الصافي الأصيل تحول إلى إسلام سني وإسلام شيعي وإسلام خوارجي وإسلام إباضي... إلى عدد آخر من الهويات اللصيقة بالإسلام، وكل هذه الأنماط المذهبية خرجت من بيت المذهب واستقرت تحت خيمة الطائفة.

الخلاصة إذاً أنَّ الطائفية حقيقة سائدة.

إن الذي يتحدث ضد الطائفية من المسلمين هو نفسه طائفي، بوعي أو دون وعي..

ومن أجل أن نخرج سالمين من هذه المِحنة الكارثية التي ألصقناها بالطائفية، لا بد أن نعي بعمق وإخلاص وجدية أن الطائفية ما هي إلاّ نتاج لتراكمات، فهي إذاً في حكم الأعراض وليس في حكم العِلَّةِ أو عِلَّةُ العِلَلِ، لأنَّ العِلَّةَ التي أظهرت الطائفية هي في مكان آخر، ويجب البحث عن هذا المكان الآخر حتى يمكن علاجه، الشفاء لا يأتي من معالجة الأعراض، بل من معالجة العِلَّة الحقيقية.