&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «آخر صيف لفرانكو»
&
سمير عطا الله

&
كانت مدريد صيف 1975 تعيش الأيام الأخيرة من دولة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، آخر ديكتاتور في أوروبا الغربية. ومعظم المظاهر التي فرضها حكمه كانت قد زالت إلا الخوف الداخلي الذي اعتاده الناس. وكانت أدوات الرعب نوعين؛ واحدًا يجب أن تراه على الدوام، وهو رجال الشرطة و«الحرس المدني»، بقبعاتهم العالية وألوانهم الفاقعة، والثاني غير مرئي، لكن يجب أن تشعر به، وهو نحو 20 نوعًا من الشرطة السريّة.

كل شيء في عهده كان خاضعًا لـ«إذن» من الشرطة: السفر إلى الخارج، والتنقل في الداخل، والنزول في الفنادق، وتأشيرات الدخول التي تمنحها السفارات. وكانت سجونه ملأى بضحايا الاعتقالات التعسفية والوشايات. وتقهقرت إسبانيا خلف أوروبا في ظل «الغوديو» أو «القائد»، وهو اللقب الذي اتخذه ثلاثة في الثلاثينات: «الفوهرر» في ألمانيا، و«الدولتشي» في إيطاليا، و«الجنراليسمو» في إسبانيا. وطاب اللقب للعالم العربي، فلم تعد هناك شعوب يتزعمها حاكم، بل قطعان يقودها رجل ملهم لا سلف له ولا خلف، كل ما قبله بائد، وكل ما بعده مُباد.
أبحر فرانكو بإسبانيا من 1939 إلى 1975، وانتصر في حرب أهلية للحفاظ على الملكية، شاركه فيها أهل اليسار وأهل اليمين من أنحاء العالم. كما خاضها، أدبيًا وعمليًا، بعض أشهر أدباء العصر: جورج أورويل وإرنست همنغواي وأندريه مالرو. وأعدم خلالها شاعر الأندلس غارسيا لوركا. وحوَّل الأدباء والشعراء تلك الحرب إلى قصة رومانسية وأفلام سينمائية، لكنها كانت مأساة سقط فيها نصف مليون قتيل، وامتدت آلامها وفقرها حتى السنوات الأخيرة من حكم «الغوديو» الذي رفض الخروج من عالمه الذي أرساه في الثلاثينات.

صيف 1975 كان بالنسبة إلينا في لبنان صيفًا مشؤومًا يشبه إلى حد بعيد بدايات الحرب الأهلية في الثلاثينات. شتاء ذلك العام تركتُ «النهار» لأصبح رئيس تحرير «الأسبوع العربي». وقد تكرّم بزيارة التهنئة يومها وزير الخارجية الأستاذ فؤاد بطرس. وفيما أودّعه إلى باب المصعد، سألته من باب استكمال المحادثة عما يقرأ تلك الأيام، فقال إنه غارق كمحامٍ في القراءة عن الظاهرة العالمية الجديدة التي هي النفط. وسألني بدوره عما أقرأ أنا، فأجبته أنني أقرأ في، حزن وخوف، كل ما كُتب عن الحرب الأهلية الإسبانية، لأننا نعيش ظروفًا مشابهة إلى حد مريع. ويبدو أن لبنان، مثل إسبانيا، سوف يكون ساحة الصراعات الدولية والإقليمية المتوالدة والمتكاثرة، وسوف يدفع الثمن الأكبر.

وها أنا ذا في مدريد الآن أستذكر عن قرب صور الحرب التي دمّرت إسبانيا، ثم أعادت صياغتها، وأما نحن، فسوف تدمّرنا الحروب، ثم تدمّر المنطقة تمامًا، كما تحولت الحرب الإسبانية إلى حرب أوروبية ساحقة.
إلى اللقاء..
&

&