&يحيى الأمير

&بكل اقتدار، أدرنا الحج كل تلك الأعوام منذ أن قدرنا الله لهذا الشرف وقدره لنا مسؤولية وخدمة. الحرمان الشريفان اللذان يمثلان الجزء الأكبر من مسؤوليتنا التاريخية الثقافية الحضارية تجاه العالم الإسلامي وتجاه كل مسلم. إنما ليرى العالم كله كيف نستوعب ونفهم ونطبق تلك المسؤولية. لا تقوم تلك المسؤولية على أن نقدم أنفسنا كمرجعية للمسلمين، بل نكرر ونؤكد دائماً أن مرجعية كل مسلم هي بلاده وجنسيته، أيضا ندرك أن الدين ليس دولة ولا كيانا له حدوده التي تخرج الناس منه وتدخلها فيه بل هو فضاء عام وهوية ومنظومات مِن القيم السانحة لكل أبناء الأرض. إن المسؤولية التي نحملها في المملكة تجاه المسلمين تتجلى في هذا الحشد السعودي الهائل الذي يصطف كل عام خدمة للحجاج، وتلك القوى والإمكانات التي نسخرها دون النظر إلى التكلفة أو الأوضاع والظروف الاقتصادية، علما أن ما ننفقه على الحج أضخم بكثير مما يمكن اعتباره عوائد مالية.

في الواقع إن الذي يجعل دولة مثل إيران في مثل هذا التخبط في المنطقة بشكل عام هو هذا النموذج الذي نقدمه في فهمنا لمعنى المرجعية وفي تطبيقنا لمسؤوليتنا الإسلامية. لم يحدث أن قدمت المملكة نفسها على أنها مرجع السنة في العالم، أولا لأن تركيبتها السياسية والاجتماعية والثقافية تجعل من المؤسسات الدينية مرجعا استشاريا للقرار ومرجعا شرعيا للعامة، ومع تزايد مستوى الوعي العام والتغيرات التي يمر بها المجتمع تخضع مختلف المؤسسات الشرعية لمزيد من التطوير والتحديث الذي يحافظ على لياقتها ويجعلها أكثر انسجاما مع الأجيال المتعاقبة، أما فيما يختص بالخارج فلكل بلاد مرجعيتها الشرعية بالكيفية التي تراها.

نتعامل في قضايا المنطقة وقضايا العالم السياسية وفق التقاليد والأعراف الدبلوماسية، ولا نبيع للمسلمين في العالم شعارات أو عداوات تجاه أي كيان أو دولة ومهما كانت لدينا من مواقف إلا أننا ننطلق من قيمنا في إدارتها وفق المنطق السياسي العالمي، وحتى في قضية كالصراع العربي الإسرائيلي قدمنا قبل 13 عاما تلك المبادرة للسلام التي أصبحت بعد ذلك مرجعا عربيا.

حين قادت المملكة التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن لم ترفع شعارا دينيا، واستطعنا حماية اللغة الداخلية المتداولة عن عاصفة الحزم وإعادة الأمل من أن تلبس أي رداء ديني أو طائفي، بل إن اللغة السياسية والدبلوماسية التي رافقت وترافق العملية لم تحو أية صبغة دينية أو مذهبية.

نواصل في المملكة بناء هذا النموذج الذي بات يمثل التحدي الأكبر لكل الخصوم والمتربصين، وحتى إن شهد الخطاب الديني الصادر عن بعض المنابر والشخصيات الشرعية الوعظية جنوحا في لفظه أو معناه باتجاه متطرف أو مذهبي فهو أولا لا يمثل الرؤية السعودية لا الرسمية ولا العامة، وثانيا فإن المؤسسات والإعلام المحلي هم أول من سعى ويسعى لمواجهة تلك الخطابات وكشفها. إن الخطابات الدينية المتطرفة التي تصدر عن شخصيات أو منابر داخلية تنطلق في بعضها من فكرة مواجهة خاطئة تماما، وهي أنه لكي ترد على إيران أو تجابهها فيجب أن تكون مثلها إنما على الضفة الأخرى، وهذا خطأ كبير يقع فيه الوعاظ حين يتناولون أمرا سياسيا أو حين يرون أنها معركة طائفية مذهبية فقط، إنها كذلك بالفعل لكننا لن نكون طائفيين لنواجه الطائفية إنما نواجهها بهذا النموذج الإيجابي العالمي الذي نقوم به الآن.

هذا النموذج انتصر في مواجهة المد الشيوعي وانتصر في مواجهة حربي الخليج الأولى والثانية وانتصر بعد الهجمات العالمية التي اتهمته بالإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانتصر بعد موجات الربيع العربي وهو ينتصر الآن أمام الإرهاب والتطرف وهذه الظروف الإقليمية وهذا الكيد السياسي المتواتر.

وليواصل هذا النموذج نجاحه فإنه بحاجة إلى أن يطور نفسه باستمرار، هذه المرة داخليا وهو ما يترقبه الآن باتجاه المستقبل.