محمد الرميحي

ما الذي يجعل من الإدارة الروسية تناقض التوقعات وتعلن أنها لن تثأر بالمثل لطرد خمسة وثلاثين دبلوماسيًا روسيًا من الولايات المتحدة، عشية قدوم السنة الجديدة، وتبلع الإهانة، بل تزيد على ذلك بدعوة الكرملين عددًا من الدبلوماسيين الأميركان في موسكو إلى عشاء رأس السنة! الأمر الذي امتنع عن تلبيته انسجامًا مع روح الاحتجاج التي أعلنت في واشنطن؟! هل ذلك جزء من حرب غير معلنة يفرضها البعض في روسيا الاتحادية نكاية؛ بسبب تهميش روسيا في الساحة الدولية، وحرمانها من الفعل في التجمعات الأكثر تأثيرًا في العالم، مثل التجمع الدولي للقوى الأعظم الاثنتي عشرة، أو فرض أشكال مختلفة من العقوبات الصارمة على الدولة وعلى أشخاص متنفذين فيها بسبب ما حدث في أوكرانيا؟ أم أن الأمر هو استضعاف للإدارة الراحلة من البيت الأبيض، وإرسال عربون وفاق مع الإدارة الجديدة، والمراهنة على أنها سوف تعيد العالم إلى الكوندومنيوم، أي الشراكة الثنائية لإدارة العالم بين الدب الروسي والنسر الأميركي، كما تجلت بعد الحرب العظمى الثانية وحتى سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي؟ يغمر الإدارة الروسية طموح رغائبي في أن العالم على شفا تغيير من لحظة القطبية الوحيدة التي سادت لبضعة عقود إلى الثنائية من جديد، أي أن انفراد الولايات المتحدة بإدارة العالم قد قارب على الانتهاء، وكان آخر مسمار في نعشها ما دقته إدارة أوباما في السنوات الثماني المنصرمة، من تراجع عن القيادة، أو كما هو عبر عنها بـ«القيادة من الخلف» وتراهن موسكو على قراءة التغيير في واشنطن على أنه فرصة تفاهم مع ساكن البيت الأبيض الجديد (إدارة ترامب) التي تدعو إلى العزلة، وإن أمكن، الشراكة لتخفيف أعباء وتكاليف السلام العالمي. موسكو تقدر أن كلاً من القوتين العظميين تحتاج إلى الأخرى، وأن ذلك التفاهم ممكن، دون حتى الأخذ بعين الاعتبار موقف حلفاء الولايات المتحدة الغربيين.
قد يكون هذا الرهان هو الأكثر منطقية في تفسير التصرف الروسي الأخير. إلا أن طرد الدبلوماسيين الروس جاء على خلفية تدخل روسي في الانتخابات الأميركية الأخيرة، والاستفادة غير المباشرة لطرف من نشر مراسلات سرية للمرشحة الديمقراطية وكبار معاونيها، قيل إن هناك في روسيا من شجع على تلك القرصنة وعلى أعلى المستويات، حتى لو لم يكن التأثير في الانتخابات مباشرًا، فإن الكرامة الشعبية الأميركية قد مُست بعد أكثر من قرنين من السيادة المطلقة وغير المخترقة لأفعال الإدارات الأميركية المتعاقبة على أرضها، وإن شيئًا معيبًا قد حدث يتعدى الاستقطاب الثنائي في الداخل الأميركي، ليمُس السيادة الوطنية بل والفخر الوطني، هذا الأمر وإن كان قد فسره السيد ترامب بأنه مبالغ فيه، فإن الحدث سوف يصبح عقبة تاريخية أمام أي تقارب روسي - أميركي سريع، إن تجاهلت تأثيره الإدارة القادمة وحاولت تجاوزه، يمكن أن تكبر ردود الفعل عليه في الداخل الأميركي ككرة الثلج، وربما في حال تفاقمه قد يُسرع بإطاحة الرئيس أو بإعاقته بشكل كبير. هنا سوف يصبح طموح العودة الروسية إلى الثنائية القطبية طموحًا معطلاً أو مشكوكًا فيه.
من جهة أخرى، فإن الثنائية القطبية كما كانت لا يمكن إعادتها من جديد، إذ كانت قد بُنيت وتطورت على مدى نصف قرن تقريبًا على ركيزتين؛ الأولى احتكار نسبي لقوة الردع النووي، والثانية الإيمان والدفاع عن الآيديولوجيا، احتكار السلاح النووي في العالم والانفراد به قد تم اختراقها من قبل لاعبين ثانويين منهم الهند وباكستان وإسرائيل، دون كثير من العواقب السلبية من قطبي الثنائية، كما أن الآيديولوجيا التي كانت مكان استقطاب بين الاثنين لم تعد قائمة، من جهة الاشتراكية الماركسية الدولية، وخلق جنة افتراضية لشغيلي العالم، والثانية الليبرالية التي تدعو إلى الديمقراطية والسوق الحرة والحرية الفردية. من جهة أخرى، تحت تلك المظلة الثانية كان يمكن أن يتحكم الكوندومنيوم في تسيير العالم، بعض دول العالم في الجنوب كانت تمارس حرية الاعتراض من باندونغ 1955 إلى آسيان، لكن لم يكن ذلك الاعتراض له ثقل يذكر في تحديد المصير، إلا أن تاريخ هذا الحكم الثنائي تعرض لهزيمة التشكيك في أكثر من مكان بسبب الصراع غير المباشر؛ الأول هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام، وكانت هزيمة مذلة، الثاني هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وهي التي قادت تداعياتها إلى التدمير النهائي لنموذج الاتحاد السوفياتي. لقد اكتشف الجانبان أن حرب الدول أكثر سهولة بكثير من حرب الشعوب، خصوصًا تلك التي قررت أن تملك مصيرها، هذه الحقيقة تجاهلها بوتين أخيرًا في سوريا!
لم يعد الاستقطاب الآيديولوجي قائمًا اليوم في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، فلا روسيا الاتحادية تملك أمثولة لتطور الشعوب ونمائها، ولا الولايات المتحدة بعد المشكلات الهيكلية التي تواجه اقتصادها، ترغب في الدفاع ولو جزئيًا عن «القيم الأميركية» التي كانت تدافع عنها في الإدارات السابقة وتميل أكثر إلى واقع أنها وروسيا الاتحادية لم تعودا لوحدهما في هذا العالم. ففكرة السيد فلاديمير بوتين أو رغباته أو تصورات السيد دونالد ترامب وأحلامه في إعادة بناء قطبية ثنائية جديدة تتحكم في العالم لا تتناسب ومسيرة التاريخ أو تساير واقع السياسة الدولية، لقد خرجت دول كثيرة من لعبة «الزبائنية» التي خلقها الاستقطاب الثنائي في السابق، بعض الخروج برضا أحد الطرفين، فرنسا الديغولية مثال على ذلك في السابق، ولكن الأمثلة المقبلة هي أكثر أهمية، لأن الخروج هنا يفرضه الواقع على الأرض، فلا الصين ولا الهند ولا البرازيل ومعها عدد من القوى المتوسطة النووية أو شبه النووية، راغبة في ترك القطبين للانفراد بمستقبل العالم، كما ثبت أن قدرتهما لوحدهما على التحكم في المشكلات العالمية قابلة للشك والارتياب، فقد تعاظمت الصراعات دون ضبط، وإن بدت محلية فإنها تؤثر بتداعياتها على العالم. الصراع في سوريا مثال على ذلك، الذي يفيض بأشكال من العنف في العواصم الغربية والشرقية على السواء.
إذن أمامنا في العلاقات السياسية الدولية عدد من المفاجآت على رأسها عدم اليقين الذي قد يغير قواعد اللعبة كما خبرناها حتى الآن، فلا عودة للقطبية ولا استقرار على تعددية قطبية فاعلة، كما يزداد الارتياب العالمي في سياسات كل من موسكو وواشنطن على السواء، فنحن ندخل حقبة اضطراب في العلاقات الدولية غير مسبوقة وغير محسومة.
الدرس الأكثر أهمية من هذه المسيرة هو مركزية التكتلات الإقليمية التي نفتقد حتى التفكير الجاد فيها نحن العرب، فليس هناك متسع للاسترخاء. واضح أن العالم العربي يُعرض إلى تقاسم بين عدد من القوى المحلية الإقليمية وبين قوى عالمية؛ محليًا: إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، لا تخفيان طموحات الهيمنة أو التأثير الكامل أو الجزئي في الأحداث، ومن جهة ثانية الغرب والولايات المتحدة وروسيا، كل له مصالحه في منطقتنا التي قد تتناقض جزئيًا أو كليًا مع المصالح العليا للعرب، كما يشهد كثير من مجتمعاتنا انقسامًا داخليًا حادًا، أدى إلى حروب أهلية وأشكال من الإرهاب. الاجتهادات العربية القائمة حتى الآن تفتقر إلى قراءة متأنية للتطورات في العالم وفي مجتمعاتنا. ليس أمامنا كعرب غير التفكير الجاد في بناء تحالف عربي من الراغبين والقادرين على مواجهة المتغيرات الضخمة المقبلة، والذود عن الحد الأدنى على الأقل من المصالح، وبناء مجتمع تكافلي قائم على العدل والمشاركة، ذلك يحتاج ليس إلى سياسيين فقط ولكن رجال دولة!
آخر الكلام:
أمام الدول العظمى طريقان؛ إما التنافس العسكري المكلف، أو احترام حقوق الشعوب في الحرية، فالتدخل في حروب غير عادلة يؤدي إلى الاستنزاف.