حسين شبكشي

رحل باراك أوباما. دخل المجد الأميركي من بابه العريض، وتمكن من تحقيق إنجازات هائلة وغير مسبوقة ستسجل وتحسب له. أما في العالم العربي فهناك ارتياح كبير لرحيله.
بدأ عهد أوباما في الشرق الأوسط بخطاب مثالي ألقاه في جامعة القاهرة عاصمة كبرى الدول العربية، في عام 2009، وكان خطابًا مليئًا بالقيم والمبادئ وحسن النيات، معبرًا فيه عن رغبة جادة وجديدة في مد جسور الثقة والتواصل بين الغرب والعالم العربي والإسلامي بعد سنوات مقلقة ومتعبة بين الطرفين، أدت إلى حصول فجوة هائلة بينهما يحكمها الشك والظنون.
بدأ الترحيب والتهليل بوصول روح جديدة للبيت الأبيض، والاحتفاء بأصوله الإسلامية، وغير ذلك من الشعارات، ثم تبين أن لديه توجهات أخرى الغرض منها إنجاز شخصي له، فهو «اشترى» فكرة تحرير الشرق الأوسط من بعض مساعديه، وأراد دخول وصناعة التاريخ تمامًا، كما فعل الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان عندما أسقط جدار برلين، وأسقط الاتحاد السوفياتي، وحرر بالتالي أوروبا الشرقية من براثن الشيوعية.
لقد كانت الفكرة تحرير دول الربيع العربي، أو بالأدق «الهباب» العربي، كما يحلو لمن اكتوى بناره أن يسميه، ومن ثم تسليمها إلى «كفيل» واحد جديد لديه حضور في كل دول المنطقة المنشودة، وبالتالي حصل القبول لتسليم جماعة الإخوان المسلمين هذه الدول نظرًا «لوجودها القديم»، بحسب ما تم الترويج له بقوة، وطبعًا ولدت هذه الفكرة شروخًا في المجتمعات، وولدت عنفًا دمويًا لا تزال المنطقة تئن من ورائه.
أوباما نادى بالحريات وتخلى عن النداء، وقال إنه يحارب الطغيان والتطرف الديني، ثم فجأة وضع يده مع إيران، وغض النظر عن تدخلها في دول المنطقة كلها من دون استثناء، مما ولد شكًا وريبة وقلقًا وخوفًا من نيات أوباما مع إيران وما أهدافه من ذلك، وهي التي كانت في قائمة محور الشر المعروفة.
أوباما ستكون أسوأ صفحاته في كتاب تاريخه، الجريمة التي لم يتمكن من إيقافها، وهي مذبحة نظام بشار الأسد بحق شعبه في سوريا وسماحه باستمرار القتل والتهجير ودخول أفواج من الإرهابيين للقتال مع نظام الأسد والدفاع عنه حتى تحولت سوريا إلى ساحة متوحشة... كل ذلك في الأساس يتحمله باراك أوباما الذي وعد فأخلف، تردد، فاستغل ذلك المشهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحسن استغلال، وسيطر على الوضع في سوريا تمامًا، وبات يملي رغباته على الأسد وإيران وتركيا وأميركا.
أميركا اختارت «الانسحاب» وترك المشهد في الشرق الأوسط إلى فوضى عارمة، بعد أن وعد أوباما وعودًا عظيمة لم يحسن تنفيذها. والمدهش أن هذا الرجل الحقوقي والمثالي في طروحاته والمحامي عن الحقوق والحريات، اختار أن يتحالف مع إيران تلك الدولة البعيدة كل البعد عن طروحاته وأفكاره وهمومه. لو اختار أوباما التحالف في المنطقة مع جيبوتي مثلاً لكان ذلك أكثر إقناعًا، فجيبوتي فيها مظاهر الديمقراطية ومظاهر الوسطية والاعتدال والتسامح والديمقراطية. أوباما كان من الممكن أن يترك مكانة لا مثيل لها لدى العرب لو أنه جنح إلى جانب الدول المدنية البعيدة عن التطرف، وهي المسألة التي عانت منها المنطقة مر المعاناة من كثرة المدعين والمروجين لأنفسهم بأنهم وكلاء الله على الأرض، وفي سبيل ذلك لا يتوانون عن سفك الدماء وقتل الأبرياء.
أوباما اختار معركة خاسرة مع حليف فحصل ما حصل؛ سنوات من الاضطراب والقلق عاشتها المنطقة العربية، ولكن بكل أمانة يقع اللوم الأول والأساسي على شعوب المنطقة التي لا تزال «تسمح» بالسموم والتلوث أن يدمر العقول وبالتالي المجتمعات، وهذا هو الهم الأكبر.