فـــؤاد مطـــر 

 الآن وقد تم إسدال الستارة على أكثر عرض إثارة وغرابة على مسرح السياسة الأميركية وجرى تنصيب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة يحمل الرقم الخامس والأربعين في قائمة رؤساء أميركا منذ الأول جورج واشنطن قبل مائتيْن وثمانية وعشرين عامًا، يجد المرء مثل حالي ككاتب والجمع العريض من أبناء الأمة كقرَّاء، أن الإضاءة على بعض جوانب هذا العالم الرئاسي الأميركي القائم على أكثر القواعد الديمقراطية متانة، من شأنها أن تفسر لنا ما هنالك حاجة لاستيضاحه حول السر الذي جعل رجلاً بالغ الثراء وتضم القائمة التي تحوي أسماء البليونيين على مستوى العالم اسمه، يُحْدث اختراقًا نوعيًا في مجتمع أهل الحُكْم في الولايات المتحدة وتبدأ به ظاهرة «البيزنس مان» رئيسًا للدولة الأعظم.


وهو في خطاب التنصيب (يوم الجمعة 20 يناير/ كانون الثاني 2017) كان متحديًا لذلك المجتمع غير عابئ بمحاذير ارتدادات عليه. بل إنه في إحدى فقرات الخطاب كان أشبه ببعض ثوريي العالم الثالث الذين يكثرون من مفردات يرونها جاذبة للشعب وفي اعتقادهم أن هذه المفردات تشكِّل الالتفاف الشعبي حول حركتهم الثورية الانقلابية. وبالنسبة إلى ترمب فإن المفردات التي نعنيها أوردها بكثافة في عبارة «حفْل اليوم له معنى خاص، لأننا لا ننقل السلطة من إدارة لأخرى أو من حزب لآخر ولكن ننقل السلطات من واشنطن إلى الشعب، فلمدة طويلة انحسرت الفوائد على مجموعة صغيرة في واشنطن، في حين تحمَّل الناس التكلفة ولم يشاركوا في الثروة بينما ازدهرت ثروات السياسيين وتراجعت الوظائف وأُغلقت المصانع بينما قامت المؤسسة السياسية بحماية نفسها. التغيير يبدأ هنا. لن نتقبل من أي سياسي يتحدث دون أن يفعل شيئًا، فزمن الحديث الفارغ انتهى وبدأ وقت العمل. ما يهم ليس الحزب الذي يحكم وإنما المهم أن يحكم الشعب وسيتذكر العالم أن 20 يناير 2017 هو اليوم الذي أصبح الشعب يحكم فيه هذا البلد...».
المفردات كثيرة وتلك التي أوردتُها هي على سبيل المثال لا الحصر، وللقول من باب المقارنة إن الرياح الثورية العربية وفي بعض دول القارة الأميركية اللاتينية لفحت مخيلات جماعة التنظير في ديوان دونالد ترمب، ذلك أن المرء مثل حالي الذي عايش الحُقَب الثورية العربية وتابع مساراتها وخُطب القادة وقراراتهم يلاحظ أوجه تشابه، إن لم نقل منطلقات في مفردات أوردها ترمب، مع أقوال سمعناها من قادة ثوريين باتوا في ذمة الله حول الشعب و«من أجل الشعب» وفي سبيل رعاية مصالح الشعب، وألحقوا الأقوال بإجراءات مثل التأميمات التي وصلت في عهد هواري بومدين إلى حد تأميم صالونات الحلاقة في الجزائر، متجاوزًا تأميم عبد الناصر لمصانع وشركات من بينها شركة لتسجيل الأغاني على أسطوانات يملكها الفنان المصري تمثيلاً وطربًا محمد فوزي. كما مثل قرارات وإجراءات اتخذها معمَّر القذافي الذي ألغى كل طيف سياسي واستبدل بمؤسسة الحُكْم التقليدية «سلطة الشعب» التي ترأَّسها ويقود بشخصه طارحًا مقولات «مَن تحزب خان» و«البيت لساكنه». وأما في سوريا فإن حافظ الأسد و«من أجل الشعب» أمم طائفة تشكل ثمانين في المائة من عدد السكان ثم أورث الابن الثاني بشَّار الذي «من أجل الشعب» أمم على طريقته، وبمساندة الحليفيْن الإيراني ثم الروسي اللذيْن يحميان الثورة والنظام، رموز العمل السياسي التقليدي الذين في منظوره لا يعيرون اهتمامًا للشعب. كما أن صدَّام حسين اقتلع جذور كل الأطياف السياسية لتبقى راية البعث وحدها مرفوعة وذلك «من أجل الشعب» كما هي رؤيته. وحتى البرلمان بات اسمه على سبيل المثال في مصر الساداتية «مجلس الشعب» وذلك كُرمى لعيون الشعب. وحديثًا أطلق ميشال عون منذ اليوم الأول لتنصيبه رئيسًا للجمهورية في لبنان تسمية «قصر الشعب» بدل «القصر الجمهوري».
وقد يكون الذي قاله ترمب استحضار أفكار للسياسي البريطاني توني بن أو مجرد توارد خواطر وليس استنساخًا بالنسبة إلى تنظيرات قادة عرب. ولكنه ربما كذلك بالنسبة إلى أقرب جيران الولايات المتحدة كوبا كاسترو وإلى الجارة الأبعد قليلاً فنزويلا تشافيز لأنه لا بد كأميركي تابع بكثير من الاهتمام والحذر المتصل بمصالحه كرجل أعمال، كيف أن الاثنيْن كاسترو ثم تشافيز قالا الغث والسمين من الكلام وفي خطب طويلة، بدءًا من السنة الأولى لتسلم السلطة وحتى ما قبل الرحيل، عن الشعب وسلطة الشعب وكيف أن أهل السياسة أخذوا من طريق الشعب ما لا يحق لهم أخْذه. كما لا بد كرجل أعمال بليوني لا يتمنى نهاية للولايات المتحدة التي بات رئيسها كتلك النهاية المأساوية لكل من كوبا وفنزويلا المحكومتيْن من رئاستين تسلمتا السلطة بالوراثة وعلى خلفية «نقْل السلطات من هافانا إلى الشعب»، هذا في كوبا الكاستروية. و«نقْل السلطات من كاراكاس إلى الشعب» هذا في فنزويلا التشافيزية - المادوروية. تمامًا كما يريد ترمب بعد خمسة عقود في الدولتيْن الجارتيْن، استنساخ الخطوة وعلى نحو قوله في خطاب يوم التنصيب «نقْل السلطات من واشنطن إلى الشعب».
قد تكون هذه الحماسة المفرطة من جانب ترمب تستهدف رفْع منسوب الالتفاف الشعبي حوله من 35 في المائة إلى ما هو أعلى من الخمسين في المائة، وبذلك يبدد من أذهان الناس الانطباع بأنه شعبي قولاً إنما غير شعبي استنادًا إلى أرقام «الماكينات» الانتخابية. لكن هذه الحماسة ستفرز تساؤلات كثيرة لعل أهمها أنه كرئيس للدولة العظمى يطرح «عقيدة» للحُكْم وهي «نقْل السلطات من واشنطن إلى الشعب»، أي مِن المؤسسات بدءًا بمجلسي النواب والشيوخ. ومِن التساؤلات كيف سيتعامل مع سائر دول العالم المحكومة بأنظمة مستقرة نسبيًا وذات مؤسسات دستورية وحزبية.
في تاريخ مؤسسة الرئاسة الأميركية هنالك رئيس وحيد جاء إلى الحُكْم على جناح عائلته الثرية هو الرئيس السادس جون كوينسي آدامز (1825 - 1829). هذا الرئيس الثري حاول إدخال الكثير من الإصلاحات، إنما من دون رفْع شعار «نقْل السلطة من واشنطن إلى الشعب»، لكن الكونغرس رفض معظمها الأمر الذي تسبب بخسران ولاية رئاسية ثانية. من هنا ربما يدفع مجد السلطة الرئيس الخامس والأربعين إلى إعادة النظر في بعض مفاهيمه ووعوده ومن بينها أيضًا نقْل السفارة الأميركية إلى القدس، مجسدًا بذلك واقع وقوفه مع الظالم الإسرائيلي ضد المظلوم الفلسطيني، مع أنه فيما أوردناه من مفردات أوحى بأنه مع الشعب ضد حارميه، ذلك أن نقْلها يجعل المواجهة مع «داعش» نزهة إزاء ما قد يحصل. وللرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عبارة يا ليت الذين يحيطون بالرئيس ترمب يوضحون له معناها وهي «مَن أعان على خصومة بظُلم لم يَزَل في سخَطِ الله حتى ينزع»، أي يُقلع. والخصومة بين نتنياهو ومَن يمثله وبين الشعب الفلسطيني تستوجب من الرئيس ترمب إعانة الجانب الفلسطيني المظلوم بتيسير إقامة دولته وليس إعانة نتنياهو بتبييض صفحته عن طريق نقْل السفارة إلى القدس، ردًا على الرئيس السلَف أوباما الذي حاول في موضوع عدم استعمال «الفيتو» حول الاستيطان تسديد جزء من ديون مترتبة عليه أثقلها ذلك الوعد بتحويل صيغة الدولتيْن إلى واقع.