عزت صافي 

لا يزال في ذاكرة جمهور كبير من قدامى اللبنانيين الأحياء حداء شعبي مفعم بالود والإكبار لفرنسا، مطلعه «فرنسا أم الدنيا عموم... اعتزوا يا لبنانيين»، وقد تردّدت أصداء هذا الحداء في الاستقبالات الشعبية التي كانت تُقام احتفاء بزيارات رؤساء فرنسيين للبنان، خلال عهد الانتداب، وبعد نيل الاستقلال.

في المقابل كان للبنان النصيب الكبير من الحفاوة والتكريم في باريس، مع اختلاف مستوى الزيارات الرئاسية بعد الاستقلال، وكان آخرها زيارة الرئيس ميشال عون لفرنسا (25- 26- 27 أيلول- سبتمبر الفائت).

كان الرئيس عون آتياً من نيويورك حيث مثّل لبنان في دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة حيث ألقى خطاباً وُصف في بيروت بأنه «صرخة مدوّية» أطلقها ردّاً على دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى توطين اللاجئين السوريين في «دول الجوار»، وهو عاكس الرئيس ترامب ودعا الأمم المتحدة إلى مساعدة النازحين للعودة إلى أوطانهم.

لكن نيويورك لم تكن سوى محطة في رحلة الرئيس عون نحو الغرب، فباريس هي التي كانت مقصده وغايته في زيارة دولة بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقد فتحت هذه الزيارة التي استمرّت ثلاثة أيام ببرنامجها الموسّع والحافل بالتكريم، سجل الزيارات الرئاسية بين لبنان وفرنسا منذ بداية عهد الاستقلال قبل أربع وسبعين سنة مرّ خلالها ثلاثة عشر رئيساً للجمهورية اللبنانية (بشارة الخوري، كميل شمعون، الجنرال فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، الياس سركيس، بشير الجميل (اغتيل قبل تبوئه سدّة الرئاسة) أمين الجميل، رينيه معوّض (اغتيل يوم الاحتفال بعيد الاستقلال) الياس الهراوي، الجنرال إميل لحود، الجنرال ميشال سليمان، الجنرال ميشال عون. وإذا كان لا بدّ من لمحة إيجاز لمرحلة كل رئيس فالأول منهم هو الشيخ بشارة الخوري الذي كان يحفظ الوصية التالية:

«إذا استطعت أن تحتفظ برأسك في الوقت الذي يفقد فيه من هم حولك رؤوسهم وينحون عليك باللائمة...»

«وإذا وثقت بنفسك في الوقت الذي يشك فيك الجميع، ومع ذلك سامحتهم لأنهم شكوا فيك...»

«وإذا استطعت أن تحكم من دون أن تسيطر عليك أحلامك، وأن تفكر ولا تجعل التفكير جميع أهدافك...»

«وإذا استقبلت النصر كما تستقبل الهزيمة سواء بسواء، وإذا استطعت أن تتحمل نتيجة أقوالك، وأن تشهد المعول يهدم كل ما كرّست من أجله حياتك، وتنحني لتبني من جديد ما تهدّم...»

«وإذا استطعت أن تجعل من انتصاراتك كلها نصراً واحداً، ثم تغامر به، وتفقده، ثم تعود فتبدأ من جديد من دون أن تتحسر على ما فقدت وتعبت به...»

«وإذا استطعت أن تمنع الأعداء والأصدقاء من أن ينالوا منك، وأن تحسب لكل إنسان حسابه، ولكنك لا تخشى الناس مجتمعين...»

«إذا استطعت أن تفعل ذلك كله فقد ملكت الأرض وما عليها، وأصبحت أكثر من ذلك... أصبحت رجلاً يا ولدي...» (من وصية روديار كبلنغ إلى ابنه).

الرئيس الشيخ بشارة الخوري الذي كان يحفظ هذه الوصية، ويردّدها أمام بعض الأصدقاء الزائرين في مجالسه، ارتكب في عهده خطأين ذهبا بقسط من رصيده الوطني في مرحلة ما قبل الرئاسة والاستقلال: الخطأ الأول أنه تغاضى، أو تساهل، مع ما يسمى «البطانة» من الأقارب والأصحاب الذين برعوا في استغلال السلطة واستعمال النفوذ الرسمي في المناصب والوظائف، وقد راحت تلك «البطانة» تعمل في السياسة، وفي الإدارة، لحسابات شخصية وطموحات لأدوار أكبر منها، مع ما يرافق ذلك من أخطاء وارتكابات تمسّ الوحدة الوطنية التي قام على أساسها الكيان اللبناني، ثم الاستقلال.

أما الخطأ الثاني الذي وقع فيه الرئيس بشارة الخوري فكان طموحه لتجديد رئاسته، وقد جنّد كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مجلس النواب، بأكثريته الموالية، لتعديل الدستور، وقد نجحت خطته، وجدّد لست سنوات إضافية، لكنه في منتصف الولاية الثانية واجه ثورة شعبية جامعة كل الطوائف والمذاهب، ومعظم الأحزاب السياسية، والهيئات المدنية والاجتماعية والثقافية، فسقط العهد وانتصر الشعب اللبناني، ولم ينفع الرئيس الشيخ بشارة رصيده الوطني من النضال والتضحية في سبيل الحرية والاستقلال... حدث ذلك يومي 17 و18 أيلول (سبتمبر) 1952.

الرئيس كميل شمعون الذي خلف الرئيس بشارة الخوري كان مرشح «الجبهة الاشتراكية الوطنية» بقيادة كمال جنبلاط. ومع أن ميثاق تلك الجبهة كان ضد الأحلاف الأجنبية، وكان له برنامج سياسي وطني وعربي ودولي، فقد كان الرئيس شمعون «محسوباً» على الإنكليز، وكانت علاقاته مع فرنسا محكومة بالتقاليد الديبلوماسية، وصادف أن حدث الاعتداء البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على قناة السويس واحتلالها عام 1956 بعد أيام من إعلان الرئيس جمال عبد الناصر، تأميمها، ففاجأ الرئيس شمعون العالم العربي بالدعوة إلى عقد قمة في بيروت، وعُقد المؤتمر بمن حضر من الملوك والرؤساء، لكنه انفضّ على خلافات، ولم يتوصّل الأقطاب العرب إلى قرار بمواجهة «العدوان الثلاثي» الشهير، فتردّدت إشاعات بأن «مؤتمر قمة بيروت» كان مدبراً لإفشال أي موقف عربي موحّد لنجدة جمال عبد الناصر الذي كان في ذلك الزمن، رمز ثورة التحرير في العالم العربي ومعظم الدول الأفريقية والآسيوية. ولم ينته عهد شمعون إلا بثورة شعبية مسلّحة كانت نقيضاً للثورة الشعبية المدنية السلمية التي جاءت به رئيساً للجمهورية.

وفي ذلك الزمن، كانت «معركة» انتخاب قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية قد انتهت لتبدأ المعركة مع الجنرال نفسه، وقد تدخّل فيها قادة وسياسيون كبار في العالم العربي، وفي الخارج، لإقناع الجنرال اللبناني بقبول المسؤولية المدنية خدمة لوطنه وشعبه، فانتخب يوم 31 تموز (يوليو) 1958، وأقسم اليمين الدستورية أمام مجلس النواب يوم 23 أيلول (سبتمبر)، وتردّد في بعض الأوساط الديبلوماسية والسياسية في تلك المرحلة أن الجنرال تلقى تمنيات بقبول ترشيحه من الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، ومن الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان قد صار رئيساً للجمهورية العربية المتحدة التي جمعت مصر وسورية في شباط (فبراير) 1958. كما تردّد في الأوساط الديبلوماسية عينها أن الرئيس شهاب تلقى رسالة شفوية من الرئيس ديغول فحواها أنه سيكون مرحّباً به أعلى ترحيب إذا أراد زيارة فرنسا.

مفاجأة القاهرة

لكن المفاجأة جاءت من القاهرة حين أعلنت أن الرئيس عبد الناصر سوف يزور عاصمة «الإقليم الشمالي» في الجمهورية العربية المتحدة، أي دمشق، وتبع ذلك مسلسل معلومات أبرزها أن الرئيس عبد الناصر (قد) يزور بيروت، فصار الحدث المرتقب لبنانياً، إذ إن الثورة الشعبية كانت قد توقفت لتوها، وكانت الجماهير الناصرية اللبنانية قوة بارزة فيها. وفوراً بدأت ردود الفعل من فريقي الثورة، الموالي والمعارض. الأول بدأ يرفع لافتات الترحيب والابتهاج بقدوم عبد الناصر إلى بيروت، والثاني يحذّر السلطة اللبنانية من تجدّد المعارك.

كان رئيس الحكومة في ذلك الوقت رشيد كرامي، وكان من كبار الأقطاب اللبنانيين الموالين لعبد الناصر، وقد تحسب لعواقب الزيارة غير المتوقعة فطلب من وزير الخارجية الحاج حسين العويني أن يتشاور في الأمر مع سفير مصر في بيروت اللواء عبد الحميد غالب، وكان قد تحوّل سفيراً للجمهورية العربية المتحدة، وكان الوزير العويني ملقّباً بـ «شيخ التسوية». وهو ذهب إلى السفير غالب وقال له: يا سعادة السفير، نحن نكبر بالرئيس عبد الناصر، ويسعدنا أن يزور لبنان. ثم أردف: لكن، يا سعادة السفير، إذا جاء سيادة الرئيس عبد الناصر إلى بيروت، فسوف يحاصره المسلمون اللبنانيون بمئات الألوف، ولن يسمحوا له بالمغادرة قبل إعلان انضمام لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة، فكيف نتدبّر الأمر لتفادي هذا المأزق؟!

ويقول الذين نقلوا هذه الرواية أن السفير عبد الحميد غالب أخذ الأمر بجد، فأبرق إلى ديوان رئاسة الجمهورية في القاهرة بما تبلغه من وزير الخارجية اللبناني، وتضيف الرواية أن عبد الناصر قرأ البرقية فضحك كثيراً، وقد أعجب بظرف الحاج حسين العويني وبأسلوبه الذكي، ثم اتصل بالرئيس فؤاد شهاب مباشرة ليقول له وهو يضحك: سيادة الرئيس... أنا أحب بيروت، وتسعدني زيارتها، إلا أني لا أحب أن أتحول سجيناً فيها!

لكن، تبيّن في ما بعد أن ثمّة قراراً بعقد لقاء قمة بين الرئيسين عبد الناصر وفؤاد شهاب، وكان المطلوب تحديد المكان المناسب، حتى لو تطلّب الأمر أن يبقى اللقاء سرياً.

وكان لا بدّ من مشاورات بين بيروت ودمشق للاتفاق على طريقة تأمين اللقاء الرئاسي وتحديد مكانه وزمانه، وقد شارك عدد من كبار القيادات السياسية اللبنانية المؤيدة للتيار العربي الناصري في المشاورات، وكان بينهم كمال جنبلاط الذي اتصل بقريبه ونسيبه الأمير عادل أرسلان، وكان له مقام سياسي وطني وقومي رفيع في سورية وطلب مشاركته بالطريقة المناسبة لجمع الرئاسة اللبنانية مع الرئاسة المصرية- السورية- العربية، فتذكر الأمير الأرسلاني حادثاً حصل في بين الجنود السوريين واللبنانيين على جانبي الحدود بين البلدين في عهد حسني الزعيم (في أواخر الأربعينات من القرن الماضي) فقال لكمال جنبلاط: «أتذكر ذلك الحادث الذي عكّر العلاقات بين بيروت ودمشق وكيف عالجناه مع القيادتين السورية واللبنانية؟ أتذكر الحل الذي اقترحناه ونجح»؟... قال جنبلاط: «نعم أتذكر...»، وأضاف: «لقد اجتمع ممثلون عن القيادتين العسكريتين في بيروت ودمشق وتوصلوا إلى تسوية...»، فقال الأمير عادل: «ليكن الخط الفاصل بين الحدود اللبنانية والحدود السورية في البقعة المناسبة مكاناً للقاء الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب».

فوراً، حمل كمال جنبلاط الاقتراح إلى الرئيس شهاب في القصر الجمهوري الذي كان إلى جانب أوتوستراد «ذوق مكايل» على مدخل «جونية»... وبعد ذلك تولّى الخبراء العسكريون إقامة غرفة من الصفيح والقماش على الخط الفاصل بين الحدود السورية والحدود اللبنانية، وتحديداً في المنطقة الواقعة بين نقطة «المصنع» اللبنانية، ونقطة «جديدة يابوس» السورية، وقد وصل الرئيس عبد الناصر والرئيس شهاب إلى المكان في الدقيقة المحددة، فدخل الرئيس عبد الناصر الخيمة من الباب السوري، ودخل الرئيس شهاب من الباب اللبناني، وتصافحا فوق سطح طاولة مستطيلة كانت في وسط الخيمة، فوق الخط الفاصل بين الحدود اللبنانية والحدود السورية، حيث لم يكن لا ضيف ولا مضيف بين الرئيسين، وقد نجمت عن ذلك اللقاء وثيقة غير مكتوبة، وكانت عهداً بين الرئيسين على صون علاقات الأخوة، والجيرة، والمصالح المشتركة، والمتعادلة، مع تكريس مبدأ الدفاع المشترك في مواجهة العدو الإسرائيلي.

مصافحة الوداع

ذلك اللقاء التاريخي بين (لبنان وسورية- مصر) دام ثلاث ساعات، وفي نهايته وقف الرئيسان، ولم يتصافحا وداعاً من فوق الطاولة، بل التف جمال عبد الناصر إلى ناحية فؤاد شهاب وتأبط ذراعه ثم خرج معه من الباب اللبناني، وأصرّ على مرافقته نحو سيارة الرئاسة، وفيما أدّى الحرس الجمهوري اللبناني والحرس السوري- المصري الوحدوي تحية مشتركة للرئيسين توجّه عبد الناصر إلى فؤاد شهاب قائلاً: ها أنا الآن على أرض لبنان، زائراً بحضوركم، يا سيادة الرئيس، وأحني رأسي تحية للعلم اللبناني، ومعكم يا سيادة الرئيس أبعث تحيتي واحترامي باسم المصريين والسوريين إلى الشعب اللبناني، فتطلّع الرئيس شهاب نحو علم الجمهورية العربية المتحدة وأحنى رأسه.

في تلك اللحظات كان الرئيس شهاب مأخوذاً بالمبادرة– المفاجأة التي صدرت عن الرئيس عبد الناصر، وكانت قبضتاهما مشدودتين بالمصافحة، فما كان من الرئيس شهاب إلا أن أمسك بذراع عبد الناصر، ورفع صوته عالياً: شكراً... شكراً، سيادة الرئيس. وإني باسم الشعب اللبناني أحييكم، وأحيي شعب الجمهورية العربية المتحدة في سورية وفي مصر، وإني عائد من هذا اللقاء التاريخي معكم، وفي قلبي لكم كل الود والتقدير والاحترام.

لكن الوحدة السورية– المصرية تحت علم الجمهورية العربية المتحدة لم تدم طويلاً، فقد انهارت تلك الجمهورية صباح اليوم الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1961 (ومن مصادفات القدر أن جمال عبد الناصر توفي يوم 28 أيلول 1970. وفي مطلع تلك السنة (1961– 1962) جرت محاولة انقلاب عسكري على الرئيس فؤاد شهاب قام بها أحد ضباط الجيش اللبناني، وهو كان منتمياً سراً إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» ولم تنجح المحاولة، فقد قُمعت خلال ساعات، لكنها تركت في نفس الرئيس شهاب آثاراً سلبية جعلته يفكر في الاستقالة، ولم يتأخر كثيراً حتى فاجأ اللبنانيين بتقديم استقالته فور انتهاء انتخابات نيابية كانت على قدر معين من النزاهة والحياد، لكن مجلس النواب لم يكتف برفض الاستقالة، بل ذهب بجميع كتله السياسية الموالية والمعارضة إلى منزل الرئيس في جونيه، وهو إذ أصرّ على الاستقالة أصرّ النواب على البقاء في منزله حتى يتراجع، وكان كتاب الاستقالة في جيب رئيس المجلس، وهو إذ أخرجه ليعيده إلى الرئيس خطفه أحد النواب من يده، ثم أحرقه. وفي لحظات رفع النواب الرئيس على الأكف تجديداً لمبايعته.

شارل حلو العربي- الفرنكوفوني

بعد فؤاد شهاب كانت الرئاسة اللبنانية من حظ شارل حلو (الفرنكوفوني) الذي كان عليه أن يتقن السياسة والخطابة باللغة العربية (مع العلم بأن سلفه الرئيس شهاب كان يصعب عليه استيعاب نصوص القوانين والمذكرات السياسية المهمة المكتوبة باللغة العربية، فيطلب ترجمتها إلى الفرنسية).

وبعكس فؤاد شهاب كان شارل حلو يهوى السفر، وكانت باريس بمثابة «بيته الثاني»، وكان له في فرنسا أصدقاء من نخبة «الأنتلجنسيا» في السياسة والأدب والتاريخ والفنون. وهو كان مفعماً بالحيوية، وابتسامته تسبق دائماً كلماته.

لكن ذلك الرئيس الذي أتى من المحاماة، والحقوق والقوانين، والدساتير، ومن الصحافة والسياسة، ومن الكنائس والقداديس، ومن مجتمع البورجوازية، و»الحياة الحلوة» مع كل متطلباتها من حنكة، وبراعة، ولباقة، ودماثة، وأدب، ولياقة، وأناقة، ونكتة، وابتسامة، وصوت جذّاب... مع كل هذه الصفات كان شارل حلو يبدو دائماً حائراً، والحقيقة أنه كان هو «المحيّر».

وبحسب المثل الشعبي القائل «أول دخوله شمعة على طوله» وجد شارل حلو نفسه، قبل أن يقسم اليمين الدستورية ويتسلّم مهماته الرئاسية، مدعواً إلى قمة عربية عُقدت في الإسكندرية بين الخامس والثاني عشر من أيلول (سبتمبر) 1964.

من الناحية الدستورية كانت تلك الدعوة، في الأصل، موجّهة إلى الرئيس فؤاد شهاب بتاريخ يعود إلى أسبوعين قبل نهاية عهد شهاب الذي قال لحلو، وهو يسلّمه الدعوة: «أنت الرئيس المنتخب، وأنت رئيس المستقبل، ولا يحق لي أن أشارك في قمة سوف تتخذ قرارات، وسوف تلزمك بتنفيذها... فتفضل بقبول هذه الدعوة». ثم أضاف، وهو يغمز الرئيس حلو بطرف عينه: «حظك كبير أن تبدأ رئاستك من القمة».

لكن الواقع كان عكس ذلك تقريباً. فالرئيس اللبناني المنتخب وجد نفسه بين ملوك ورؤساء عرب كانوا مدعوين إلى وضع خطة عسكرية إستراتيجية مشتركة لتحويل روافد نهر الأردن وحماية عمليات التحويل في مواجهة مشروع إسرائيل لسحب ثلاثمئة مليون متر مكعب من مياه الأردن عبر قناة كان تم حفرها بمساعدة أميركية، وكان العمل فيها قد بدأ قبل عام مضى.

إلا أن الحظ عاد وحالف الرئيس شارل حلو عندما تعرف من قرب إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي بادر إلى إطراء مزاياه الفكرية والثقافية، وجعله يشعر بالاطمئنان إلى أنه لن «يُستفرد»، بل سيكون له سنداً قوياً في مجادلات القمة وما قد يتخللها من اقتراحات تحرج لبنان وتدفعه إلى القبول مكرهاً بقرارات فيها مجازفات تهدّد وضع لبنان وأمنه، ومنها احتمال دعوة الجيوش العربية للدخول في حرب على إسرائيل لمنع مشروع التحويل.

ولم يغب شارل حلو طويلاً عن القاهرة، فالدعوة التي كانت أعدت في الماضي لتوجيهها إلى الرئيس فؤاد شهاب لزيارة مصر فُتحت من جديد وحملت توقيع الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس حلو. ولم يمر وقت طويل حتى جاءت دعوة الرئيس شارل ديغول إلى الرئيس شارل حلو لزيارة فرنسا.

ثم إن المصادر التي زوّدت الصحافيين بالمعلومات لم تذكر إن كان الرئيس شهاب كان قد تلقى من عبد الناصر مباشرة الدعوة لزيارة مصر أثناء لقائهما في الخيمة على الحدود اللبنانية- السورية. كذلك لم تذكر المصادر إن كان شهاب قد تلقى دعوة من الرئيس شارل ديغول لزيارة باريس وكيف اعتذر عن عدم قدرته على تلبيتها وماذا كانت أسبابه.

لكن شارل حلو كان الرئيس الحاضر دائماً والمهيأ للسفر واللقاء مع أكبر عدد ممكن من الملوك والرؤساء، وهو كان ذا شخصية مرنة وأسلوب مميز في عقد الصداقات وعبور الأزمات الصعبة بأقل نسبة من الضرر إن لم يحظ بالربح.

ولم يكن مجرد ترتيب عادي أن الرئيس اللبناني شارل حلو، المحسوب ثقافياً، وعاطفياً، وسياسياً على فرنسا، دخل باريس من بوابة القاهرة، وقد استقبله الرئيس عبد الناصر في المطار ورافقه إلى قصر القبة، ثم دعاه إلى بيته، ومنه توجّها معاً إلى ميدان الاحتفال بعيد أول أيار (مايو) 1965.

ومرة أخرى خصّ عبد الناصر ضيفه بتكريم مميز، إذ طلب منه أن يلقي خطاباً في المناسبة المخصصة لعيد العمال، وكان شارل حلو الضيف الوحيد من الرؤساء إلى جانب «حبيب الملايين» في ثاني أكبر أعياد مصر بعد عيد الثورة في 23 تموز (يوليو). وكان خطابه جاهزاً، إذ وقف وخاطب الملايين التي كانت تشاهده، وتسمعه، حضوراً وعبر الإذاعات والتلفزيونات في معظم أقطار العالم العربي وبعض عواصم دول العالم الثالث، وقد نال من التصفيق والهتاف ما لم يكن يتصوره أو ينتظره، خصوصاً عندما وقف عبد الناصر ليلقي خطابه ويبدأه بالشكر للرئيس حلو وبالإكبار للبنان، وقد وصفه بأنه «وطن الأحرار». من القاهرة إلى مدينة «نيس» حيث نزل الرئيس حلو على شاطئ «الريفييرا» الفرنسية ليمضي سهرته وليلته مع عقيلته المحامية السيدة «نينا» استعداداً لليوم التالي في باريس، وكانت الشمس ساطعة في ذلك اليوم الثاني من أيار 1965. كانت الأعلام الفرنسية تعانق الأعلام اللبنانية فوق واجهات مطار «أورلي»، وتزيّن طول الطريق إلى جادة الـ «شانزيليزيه» حتى قوس النصر.

وفي المطار كان الرئيس شارل ديغول بقامته العالية، وخلفه رئيس الوزراء جورج بومبيدو، ووزير الثقافة أندريه مالرو، والوزير بيار مسمير، والجنرال كاترو الذي تعرفه بيروت و «قصر الصنوبر» في النصف الأول من القرن الماضي، وهو كان يشارك الرئيس ديغول في ذكريات سنوات الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية. وإذ صدحت موسيقى النشيد الوطني اللبناني، ثم موسيقى نشيد «المارسيلياز» الفرنسي، وتبودلت مجاملات اللقاء، ثم صعد شارل حلو وشارل ديغول إلى سيارة مكشوفة اخترقت صفوف الفرنسيين حتى ساحة «الكونكورد» لتدخل بوابة قصر «مارينيي» للضيافة في جوار قصر «الإيليزيه»... «كانت زيارة مجد لم يحظ بها في باريس رئيس لبناني، من قبل، ولا من بعد»، قال ذلك الصحافي اللبناني جورج نقاش مؤسس جريدة «لوريان» الفرنسية التي تصدر في بيروت، وكان هناك.

من بوابة مصر إلى بوابة فرنسا، ومن جمال عبد الناصر إلى شارل ديغول، عاد شارل حلو إلى لبنان مترسملاً بالعروبة الناصرية، وبالديغولية الفرنسية، وفوقهما البركة الرسولية من البابا بولس السادس في الفاتيكان. وفور عودته إلى بيروت اتصل بالرئيس فؤاد شهاب ليقول له كلمته الدائمة: «رضاك»، فأجابه شهاب ضاحكاً: «نحن بدنا رضاك»!

هذه التفاصيل لبعض الجوانب والمراحل من العلاقات بين فرنسا وبعض الرؤساء اللبنانيين في زمن الاستقلال تغطي أجزاء من فصول عهود ثلاثة عشر رئيساً لبنانياً حملوا لقب «صاحب الفخامة» خلال أربع وسبعين سنة من عهد الاستقلال حتى اليوم. اثنان منهم سقطا اغتيالاً قبل الوصول إلى قصر الجمهورية: بشير الجميل 14 أيلول (سبتمبر) 1982 ورينيه معوض 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989.

فبعد الرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري، جاء الرئيس فؤاد شهاب في عهد الرئيس شارل ديغول، ثم الرئيس شارل حلو في العهد الديغولي، ثم الرئيس سليمان فرنجية في عهد الرئيس جورج بومبيدو، فالرئيس الياس سركيس في عهد فاليري جيسكار ديستان، ثم الرئيس أمين الجميل في عهد الرئيس فرانسوا ميتران. فالرئيس الياس الهراوي في عهد الرئيس ميتران، فالرئيس إميل لحود في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، ثم الرئيس ميشال سليمان الذي زار فرنسا ثلاث مرات في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، ثم الرئيس ميشال عون الذي انتخب في عهد هولاند، وزار فرنسا في عهد الرئيس مانويل ماكرون.

ويبقى لبنان «الابن البار» لفرنسا، ما دامت له «الأم الحنون».

«الفقير إليه تعالى»!

< الزائر الرئاسي اللبناني الثالث إلى باريس في أواخر القرن الماضي كان الياس سركيس في عهد الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان... وكان بائساً منذ اليوم الأول لانتخابه في الثامن من أيار 1976. فقد قاطع نواب «الحركة الوطنية» الجلسة وتولت الكتل المدعومة من النظام السوري ومن منظمة «فتح» الفلسطينية تأمين النصاب بما يكفي لافتتاح الجلسة والانتخاب.

كان الياس سركيس رجلاً وطنياً، نزيهاً، وكفوءاً للمسؤولية العامة، وهو اكتفى بحملة قصيرة توجّه بها إلى اللبنانيين فور إعلان انتخابه من الإذاعة الرسمية وعلى شاشة التلفزيون: «أيها اللبنانيون... أنا منكم... أنا لكم... أنا معكم». وكاد يقول: «أنا الفقير إليه تعالى»، إذ إنه لم يكن يملك سوى شهادة المحاماة وسجلاً حافلاً بالنزاهة والكفاءة.

وكان الياس سركيس «شهابياً» نسبة إلى الرئيس اللواء فؤاد شهاب وبرنامجه الإصلاحي والإنمائي، وكان أيضاً قريباً من العهد الفرنسي برئاسة فاليري جيسكار ديستان الذي بادر لتوجيه دعوة إليه لزيارة فرنسا، وأرادها أن تكون «زيارة دولة» على غرار الزيارة التي قام بها الرئيس شارل حلو لباريس، كما الزيارة التي قام بها الرئيس ميشال عون أخيراً.

لكن سركيس شكر الرئيس جيسكار ديستان وتمنى عليه أن يؤجل الدعوة إلى وقت يكون فيه لبنان قد تعافى وارتقى إلى مصاف الدول التي يحق لرؤسائها أن يقوموا بـ «زيارة دولة» لعواصم دول كبرى من وزن دولة فرنسا. وقد تفهم الرئيس جيسكار ديستان وضع الرئيس اللبناني، لكنه في السنة ما قبل الأخيرة من مرضه الذي لم يشف منه، اتصل بصديقه الرئيس جيسكار ديستان مبدياً رغبته بتلبية طلبه لزيارة فرنسا، إلا أنه اشترط أن لا تكون «زيارة دولة» على المستوى الرفيع، بل «زيارة عمل». وقد لبّى الرئيس ديستان رغبته، وكان وصوله إلى باريس في يوم عاصف، فاستقبله وزير الخارجية الفرنسي في أحد صالونات مطار «أورلي» ورافقه إلى قصر الضيافة، وكان رئيس الحكومة آنذاك الدكتور سليم الحص على رأس الوفد المرافق، ولم تكن العلاقة بينه وبين سركيس سوية في آخر ذلك العهد، وقد مضت أربع سنوات من ولاية الرئيس سركيس في عذاب الواجب والمرض والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، مع فوضى المنظمات الفلسطينية في مواجهة العدو الإسرائيلي وسقوط الشهداء والضحايا من الجانبين اللبناني والفلسطيني.

وكان الاجتماع الثاني والأخير بين جيسكار ديستان والياس سركيس في قصر «مارينيي» المجاور لقصر «الإيليزيه». وقد حضر الصحافيون إلى غرفة المؤتمرات بانتظار خروج الرئيس الضيف ليواجه أسئلتهم والرّد عليها. ولم تطل فترة لقاء الرئيسين، ثم خرج الرئيس سركيس بمفرده ليواجه الصحافيين، فألقى كلمته، وألقى كلمة شكر فيها الرئيس جيسكار ديستان على استقباله والاستماع إليه في كل الأمور التي تخص الوضع اللبناني، وأضاف: لقد أبدى فخامته اهتمامه الكلي بما شرحت له وأكّد لي اهتمام فرنسا الدائم بلبنان واستعداده للمساعدة وتقديم العون للدولة وللشعب اللبناني، وقد شكرته على كل ما بدا منه، وإني أحفظ له الاحترام والتقدير... وشكراً لكم.

قال سركيس كلمته الأخيرة، ثم نزل عن المنبر وسط ضجيج الصحافيين بأسئلتهم: ماذا طلبت من الرئيس ديستان؟ بماذا وعدك من المساعدات؟.. هل هي مساعدات عسكرية، أم... أم...؟

ولم يجب الرئيس بكلمة، كان يرفع يديه، ويمشي باتجاه الصالون المواجه المفتوح، فدخل وأغلق الباب.

وخلال دقائق غادر الصحافيون ومراسلو المحطات الإذاعية والتلفزيونية قاعة المؤتمر، وكان بينهم صحافي لبناني انتظر خلو القاعة فطرق باب الرئيس سركيس ودخل ليجده عاقداً يديه وراء ظهره، وهو يذرع القاعة من جهة إلى جهة، فقال له الصحافي: أما كان ممكناً يا فخامة الرئيس أن تجيب الصحافيين عن سؤالين، أو ثلاثة، على أقل تقدير؟ فتوقف الرئيس سركيس ليقول للصحافي اللبناني:

- ماذا كان بوسعي أن أقول لهم؟.. هل أقول لهم إن الرئيس ديستان طلب مني أن أعد له لائحة بالمساعدات التي يحتاجها لبنان لضبط أوضاعه العسكرية والاقتصادية؟ وهل أقول لهم إن الرئيس ديستان مستعد لتقديم العون الذي نطلبه من أسلحة ومعدات؟

وسأل الصحافي الرئيس سركيس: ولماذا لم تتقدم بطلباتك؟

صمت الرئيس طويلاً وهو ينظر إلى الصحافي، وكان يمضغ ريقه، ثم قال بصوته المبحوح:

- هل أطلب معدات وأسلحة فرنسية لتستولي عليها قوات الردع السورية، والجماعات المسلحة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وسواها من الشلل الفوضوية؟! اكتفى الصحافي اللبناني بأجوبة الرئيس سركيس، وغادر صاعداً إلى جناح رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص الذي كان وحيداً، ولم يكن يعلم بما يجري بين الرئيس سركيس وأركان الدولة الفرنسية.

ولم تمض دقائق حتى دخل المرافق العسكري للدكتور الحص الصالون وقال بصوتٍ عالٍ:

- دولة الرئيس... فخامة الرئيس سركيس غادر إلى المطار.

والتفت الدكتور الحص إلى الصحافي وقال بصوت خافت: عجبك؟!

ثم نهض ليلحق بطائرة الرئاسة في مطار أورلي.