طيب تيزيني 

كانت الثورة السورية - العربية قد اندلعت ضد الاحتلال الفرنسي، في صيغته المعروفة باتفاقية «سايكس - بيكو» وقد كان ذلك حدثاً نوعياً عبّر عنه سياسيون ومثقفون وآخرون من الطبقة الوسطى، وكانت هذه الطبقة بمثابة الحامل الاجتماعي السوري واللبناني خصوصاً للثورة السورية - العربية، في تطلعاتها الوحدوية العربية وقيمها التنويرية الجديدة.

وقد ازداد الوضع إشكالية بعد الاستقلال حين كانت التحديات تظهر أمام الحركة الاستقلالية بظهور مسائل جديدة أمام المفكرين «كثنائية الأصالة والمعاصرة»، وأمام المخططين لبعض المؤسسات العربية الجديدة، حيث راح هؤلاء يعيشون حالة من الضياع والاضطراب، ومن التدقيق في العلاقة بين السياق الوطني مثلاً والآخر الطائفي أو الأيديولوجي، أو حتى الثوري! وقد قاد ذلك إلى ظهور الصراعات التي قادت إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية في بعض الجمهوريات. وربما كانت الاضطرابات العشوائية والتفكيكية، التي انبعثت عن المقارنة بين طرفي ثنائية الأصالة والمعاصرة، الأكثر ظهوراً وتمزيقاً، وفي هذا السياق ظهر المتطرفون الدينيون بما يزعمون الاستناد إليه في التاريخ الإسلامي، وكذلك ظهر أيضاً «تيار الحداثة» بأجنحته اللاتاريخية، أي المؤسسة على فكر أوروبي انتقائي لا يرى في الحداثة سوى لونها الأوروبي ودونيّة «الفكر العربي»، بالقياس إلى ذلك الأوروبي! ومن ثم ظهرت آلية الشدّ القاطع بين الغرب والشرق، وقد ترسّخت هذه الآلية بقوة، حيث ظهرت في الحقلين الفكري النظري والسياسي الحزبي، وذلك في سياق الصراعات الدينية بين الإسلامويين والتغريبيين، وبين القائلين بالعقل والآخرين بالنقل، وبين التنويريين والآخرين الظلاميين المنغلقين مثلما يحدث الآن من «نشأة دين جديد في إيران وحزب الله».

ها هنا، كانت بعض النظم السلطوية تفرض نفسها ومواقعها، في سياق تعاظم صراعات زائفة وأخرى واقعية، لنجد أن الكثير من تلك الصراعات قد تحولت فعلاً إلى ترسانات في وجه الفقراء والمختلف معهم، في الداخل العربي الإسلامي كما في خارجه، على الصعيد الأيديولوجي الديني. وراح الأمر يبدو كأن صراعات جديدة- قديمة أخذت تتعاظم داخل العالم العربي، أي بالتوافق مع أحوال أخرى راحت تفرض نفسها من الخارج.

إن الفقراء والمفقّرين إضافة إلى من لا يملكون شخوصهم وكراماتهم، لا تذهب أثمان حياتهم سدى مع الريح! فأولئك الذين حُرموا من ضروريات الحياة الدنيا ومن الكرامة والاحترام، يؤسسون ولو متأخرين، أهدافاً وأحلاماً خاصة بهم. هذا أولاً، أما ثانياً فهم الجديرون بالبحث عما كانوا يفقدونه من المعرفة والكرامة والحب والعدل. وهنا، يلتقي هذا الهدف الأخير بذاك الذي يؤسس معرفياً (إبيستيمولوجياً) للعلم النظري المفتوح، أي الذي يمكّن لهم في الحياة مساحة للكرامة والسعادة والعدل والحرية ولو في سياق العقل والحلم والوجدان.

إن العودة إلى فهم مقاصد الدين وقيم وتطلعات المجتمع من مواقع العقلانية والتقدم والسعادة والكرامة والعدل إنما هي المبدأ والمدخل. وينبغي أن يكون يكون ذلك مقترناً بالمبدأ الفلسفي والاجتماعي والأخلاقي التالي: مبدأ الهوية مقترناً بالآخرية، والاعتراف بالآخر! أما المسألة الناظمة لذلك المبدأ فتجد نفسها مكرّسة من حيث الأساس، في الانطلاق من ثنائية الجدلية التالية، إن وصول البشر إلى المطلق مستحيل من موقع الذات البشرية النسبية، أي من حيث الأنا، أي الذات البشرية في نسبيتها القائمة والمتعددة تعدد القناعات الدينية، ولذلك فإن روح وقيم الاعتراف بالآخر والتعايش والتعارف والتعاون الإنساني هي البديل كقيم تنويرية للحالة السورية العربية الراهنة، وفي المستقبل أيضاً.