توفيق السيف

 فكرة هذا المقال جدليّة وقد لا تكون صحيحة. لكنها على أي حال تستحق التأمل. وخلاصتها أن معرفة الإنسان بحقوقه تمكنه من إدراك حقوق الآخرين، ولذا فهي تمهيد لازم لتقديرها واحترامها. إذا صحت هذه الدعوى، فإنه ينبغي التأكيد على معرفة أبنائنا لحقوقهم الشخصية والمدنية، كي نضمن احترام كل منهم لحقوق الآخرين، ولا سيما الحقوق العامة المشتركة بين جميع الناس.

أحتمل أن بعض القراء سيقول في نفسه: حسناً... قد تكون الفكرة صحيحة، لكن ما الجديد أو المهم فيها؟. لطالما سألت نفسي هذا السؤال حين لاحظت أن مفهوم الحق ضعيف وضامر في ثقافتنا العامة.
لتوضيح المسألة أشير أولاً للفارق بين مفهومين مختلفين، أولهما الحق الذي يقابل الباطل، وهو الأكثر شيوعاً في الثقافة الرائجة، والحق الذي يقابل الواجب. ويعبر عن المعنى الأول بالقول مثلاً: أنا على حق، أو أن رأيي هو الحق. فالقصد هنا أنه صحيح ومطابق لمعيار معين. ولا يقتضي بالضرورة أن يكون الرأي المقابل باطلاً أو خطأ، خاصة عند المؤمنين بتعدد أوجه الحقيقة أو نسبيتها. أما المعنى الثاني فيظهر حين تدعي أن لك حقاً على شخص. فأنت تقول ضمنياً إن هذا الشخص عليه واجب، ينبغي أن يؤديه إليك. فالحق هنا يعني الامتياز أو الاختصاص بمنفعة. ومقصودنا كما اتضح الآن هو هذا المعنى وليس الأول.
سألت نفسي كثيراً: لماذا لم يخبرني أبي عن حقوقي عليه وعلى مجتمعي. ولماذا لم يخبرني معلمي عن حقوقي على المدرسة والدولة. ولماذا لم يخبرني شيخي عن حقوقي على ربي وعلى ديني. وفي سنوات سابقة كنت أبحث في هذه المسألة، فسألت الكثير من الناس عما إذا كان أحد قد أخبرهم عن حقوقهم، فوجدتهم جميعاً مثلي.
وحين تأملت في طرق التربية العائلية والمدرسية، وفي التوجيه الديني والرسمي، وجدت جميعها يركز على «واجبات» الأفراد، ولا يتحدث أبداً عن حقوقهم. وحين درست «الأحكام السلطانية» للفقيه الماوردي مثلاً، وجدته يتحدث عن «حقوق الناس» كجمع، ولا يتحدث عن حقوق الأفراد. ووجدت بحوثاً مطولة لفقهاء وأصوليين معاصرين حول مفهومي الحق والتكليف، انتهت إلى أن التكاليف لها أولوية مطلقة إن أراد الإنسان النجاة في الآخرة. وهذا الاستنتاج يعني أن الحق متأخر عن الواجب أو متفرع عنه، أو ربما غير ضروري أصلاً. وجدت أيضاً أننا نعتبر الولد مهذباً إذا كان مطيعاً حسن الاستماع، أما الذي يكثر النقاش أو يلح في طلب حقه، فقد نعتبره «شين وقوي عين».
زبدة القول إن معادلة الحق - الواجب مختلة في تربيتنا العائلية والمدرسية، ولهذا فهي مختلة أيضاً في ثقافتنا العامة. وأحتمل أن قلة اكتراثنا بتعليم الأبناء حقوقهم، وتدريبهم على السبل الصحيحة لتنجيزها، تسبب في اختلال معادلات العلاقة بين أعضاء المجتمع. بعضنا يخجل من المطالبة بحقه كي لا يوصف بأنه «شين وقوي عين»، وبعضنا يقول صراحة «قم بواجباتك قبل الحديث عن حقك». وكلنا نتحدث عن واجباتنا الدينية والوطنية، لكنا لا نتحدث أبداً عن حقوقنا على الدين والوطن.
الصحيح أن نبدأ دائماً بتقرير حق الفرد ثم واجباته. فإذا فهمها، فهم أيضاً أن كل شخص آخر له حق مماثل وعليه واجبات مماثلة. وهذا في ظني هو الطريق السليم كي نفهم بعضنا بصورة أفضل، ونقيم علاقات أكثر توازناً واعتدالاً.