إياد أبو شقرا
بغض النظر عن رأي المرء في شخص علي عبد الله صالح وتجربته، يجوز لنا القول - كمراقبين - إن صباح اليوم ما كان صباحاً سعيداً لدعاة مشروع «الهلال الفارسي».
لقد قرّر اليمنيون، على الرغم من انقساماتهم القبلية والجهوية والمذهبية، أنهم شاهدوا ما فيه الكفاية من البديل الحوثي الذي أراد الحرس الثوري الإيراني، قبل بضع سنوات، فرضه على اليمن.
سيف بن ذي يزن يشكركم... والهدية مُرتجَعة مع الشكر. لا خطر حبشياً هنا. لا أبرهة ولا أرياط... ولا حتى هيلا سيلاسي هذه المرة.
الموضوع اليمني شائك. لا شك في ذلك. ومعالجته عبر التركيز على بُعد واحد بينما تُغفل الأبعاد الأخرى لا تفي بالغرض ولا تقدم الحلول الناجعة. ثم إن السنوات الأخيرة التي أعقبت الانتفاضة الشعبية اليمنية أتاحت لكثيرين - وهذا من حقهم - أن يحلموا بـ«يمن» جديد مختلف.
اليمنيون، مثل سائر الشعوب العربية، لهم كل الحق بالمطالبة بالتطوّر والتقدم والانفتاح. ولئن كانت بعض القوى قد نجحت بفضل تنظيمها الداخلي أو دعمها الخارجي ركوب المد، وفي بعض الأحيان والأماكن «اختطاف» الانتفاضات الشعبية، فإن عدة عوامل وضعت المنتفِضين والمنتفَض عليهم أمام الامتحان. وبالنتيجة، في خضم استمرار الانقسام، بالتوازي مع المبادرات الخليجية والدولية، وانكشاف المخطط الإقليمي المتستّر بآفة المذهبية، جاءت المبادرة من اليمنيين أنفسهم... من أصحاب المصلحة الأولى بالمحافظة على هويتهم.
صحيح، ما كان مقبولاً تحويل اليمن أو أي قطر عربي آخر، إلى قاعدة للاعتداء على العرب ووحدة كياناتهم الوطنية، لكن الجهة المعنية مباشرة بما يحدث في اليمن، في النهاية، هي الشعب اليمني نفسه. وبالأمس، تحرّك يمنيون رفضوا سلب مصيرهم وهويتهم القومية، قبائل وعسكريين وتنظيمات سياسية، لإنهاء وضع شاذٍ... ووضع حدّ لأطماع طهران عبر الحركة الحوثية الدخيلة على تاريخ اليمن والمنطقة.
في مطلع عام 2011، عندما تسارع إيقاع حركة التغيير، التي أطلق عليها مُسمّى «الربيع العربي» هدرت الشوارع والساحات... وبعدها اختلف الساسة والمعلقون في تقييم ما حدث ويحدث، مع أنه كانت ثمة معطيات بأن شيئاً ما وصل إلى نهاية الطريق.
إنه احتقان شعبي يبحث عن تصريف. طفح كيل الناس من سلطات التبست طبيعتها بين الحكم الجمهوري والحكم التوريثي. بين أحزاب مثالية رومانسية عجز معظمها عن بلوغ مرحلة النضج - رغم اجتيازها خط الكهولة - وتنظيمات افتعلتها النخب الحاكمة... أكانت عسكرية أم طائفية - عسكرية أم قبلية - عسكرية أم أمنية - طائفية، تحت مسميات لا صلة لها بالواقع. هذا كان يحدث أمام خلفية أزمات اقتصادية وبيئية وتنموية وديمغرافية وسياسية مُستحكِمة ما كانت النُخب الحاكمة قادرة على استيعابها، فما بالك باجتراح علاجات لها!
كيف كان لها أن تتفهم أبعاد تحديّات مصيرية كالنمو السكاني السريع، والتصحّر، والإسكان العشوائي، والبطالة المكشوفة والمخفية، وأمّية «جحافل» المتعلمين، و«غول» العولمة الزاحف الكاسح؟ أو أن تتفهم أهمية التحاور الجدّي مع أجيال تشكل أكثر من 70 في المائة من مجموع السكان... تشاهد وتحلم كل يوم، بفضل ثورة الاتصالات، ما يتبلور خارج العالم العربي المأزوم المهزوم في غياب البديل الفكري - الآيديولوجي؟ أو أن تقدم ذرائع مقنعة للانقسام الداخلي والعجز الخارجي لشباب قلق على مستقبله، ما عادت شعارات الوحدة الوطنية و«البطولات التاريخية» - وجلها مشكوك فيه - تعني له شيئا، بينما القوى الإقليمية المجاورة تتقدّم وتطمح إلى استعادة أمجاد إمبراطوريات غابرة، أو تؤسس لاحتلالات دائمة تلغي الحقوق والأحلام؟
كان طبيعياً جداً نشوء حالة من الإحباط والسخط. وطبيعياً جداً وجود توافق عريض على الشكوى من العلة... ولكن من دون التوافق على حلول.
الشباب الذي تحرّك في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا وغيرها كان يعرف ما لا يريده، متسلحاً بإيمانه بحقه في حياة كريمة. إلا أنه، في المقابل، في مجتمعات مدنية أشعرها حاكموها دائماً أنها بحاجة إلى الرعاية والتوجيه، وأنهم أقدر مَن يفكر عنها أدرى منها بمصالحها... لم تتوافر أمامه حلول جاهزة.
ومن ثم، بعد انطلاق شرارة الانتفاضة، وتعدّد ردات الفعل، حصل فرز لافت في كل الدول المعنية. في تونس ومصر، حيث «الدولة العميقة» والمجتمعات المدنية والمؤسسات القوية، جاء التغيير سلساً إلى حد ما. بل، إن قوى ما قبل الانتفاضة، عادت فاستوعبت «صدمة» الانتفاضة وتأقلمت معها بعدما أخفقت القوى البديلة في الاحتفاظ بزمام المبادرة والإجماع الشعبي. غير أن هذا لم يصدق على سوريا وليبيا واليمن.
ولئن كانت «الحالة السورية» تشكل بتعقيداتها جزءاً من «المسألة الشرقية» التاريخية و«خط الزلازل» الجغرافي السياسي في الشرق الأدنى، فإن البنيات القبلية والجهوية والفئوية في ليبيا واليمن هددت بتمزق النسيج الاجتماعي.
في سوريا، وعلى سوريا، لعبت عوامل عدة أدواراً خفية حاسمة في مؤامرة وأد الانتفاضة الشعبية. أبرز هذه العوامل التركيبة الدينية - المذهبية - العرقية التي طالما شكلت ذرائع للتدخلات الإقليمية والحمايات الأجنبية، أضف لذلك كون سوريا نقطة تقاطع «طموحات» إسرائيل وإيران وتركيا، ومن خلفها الحسابات الاستراتيجية لأميركا وروسيا.
أما في ليبيا، فثمة أزمة داخلية حقيقية يفاقمها بُعد دولي ناجم عن ظاهرتي الإرهاب واللجوء إلى أوروبا.
ونصل إلى اليمن...
هنا كانت الأوضاع قابلة للاحتواء منذ بعض الوقت لولا انفضاح ما كانت تخطط له إيران في اليمن نفسه، وفي شبه الجزيرة العربية عموماً. فلفترة من الفترات، تصوّر الرئيس السابق علي عبد الله صالح أنه قادر على التحكّم في الظاهرة الحوثية كما يشاء، مثلما كان قادراً على لجم النزاعات القبلية والتعامل مع «القاعدة» في بعض مناطق الجنوب. غير أن الأمور تبدّلت بعدما أدرك صالح ومناصروه ومعارضوه، وكذلك الدول الخليجية، أن الظاهرة الحوثية ليست سوى «طابور خامس» يؤدي دوره الإقليمي في خدمة «الولي الفقيه».
ربما تأخر كثيرون في استيعاب هذه الحقيقة... لكن فضحَ هذا الدور جاء من «ضابط إيقاعه»، أي الحرس الثوري الإيراني.
التعليقات