محمد السعيد إدريس

عندما أقدم الرئيس الأمريكى ترامب على إعلان قراره الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيونى فإنه حتماً كان يعرف أنه يتحدى كل القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية، وخاصة من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التى تتعارض كلها مع قراره ابتداءً من قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947، والذى صوتت الولايات المتحدة لصالحه والذى على أساسه قامت دولة إسرائيل وامتداداً إلى القرار 242 لسنة 1967 الصادر عن مجلس الأمن، والذى نص على انسحاب إسرائيل من كل الأراضى التى احتلتها بعدوانها فى الخامس من يونيو من هذا العام ومنها القدس، والقرار 478 لسنة 1980 الرافض قرار الحكومة الإسرائيلية بضم القدس، وانتهاءً بالقرار رقم 2334 لسنة 2016 القاضى بعدم الاعتراف بأى تغييرات تجريها إسرائيل على خطوط عام 1967 ومنها القدس، فضلاً عن العديد من القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وآخرها القرار الصادر قبل أيام قليلة من إعلان ترامب قراره والذى أكد أنه «لا صلة للقدس بإسرائيل» والصادر بأغلبية 151 دولة مقابل امتناع تسع دول ورفض ست دول فقط هذا القرار هى بالمناسبة: الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل إلى جانب ثلاث أو أشباه دول تدعى: «جزر مارشال، وميكرونيزيا، وتاورو». هذا القرار نص على أن «أى خطوات تتخذها إسرائيل كقوة احتلال لفرض قوانينها وولايتها القضائية وإدارتها فى مدينة القدس غير مشروعة وتعتبر لاغية وباطلة ولا شرعية لها».

كان ترامب يعى ويدرك أنه باعترافه بأن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل يتحدى العالم كله ويتحدى الشرعية الدولية ويؤكد عدم احترامه لها، لكنه كان يعى أيضاً بأن أياً من الدول العربية، التى يمكن أن تعترض بعضها شكلياً على قراره، ليس فى مقدورها أن تتحداه فعلياً وعملياً، إما لأنه يعرف أن أمن ومصالح هذه الدول مرتبط عضوياً بالولايات المتحدة، وإما لأنه يدرك مدى التحولات التى حدثت فى الفترة الأخيرة فى منظومة العلاقات الإقليمية وأدت إلى تراجع أولوية ومكانة القضية الفلسطينية ومجمل الحقوق الفلسطينية وفى القلب منها قضية القدس لصالح أولويات أخرى فى مقدمتها مواجهة «الخطر الإيراني» الذى بات يستحوذ على أولوية الاعتبارات الأمنية لهذه الدول.

قبل هذا كله كان ترامب يراهن على استقرار «أمر واقع» استطاعت إسرائيل أن تفرضه على القدس المحتلة منذ احتلالها، وأن هذا الأمر الواقع أضحى أبرز شروط التسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين كما تصر عليها إسرائيل، وهى الشروط التى كانت تسيبى حوتوبيلى نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية قد أبلغتها أخيرا للولايات المتحدة وتتضمن: رفض وجود أى سيادة على المنطقة الممتدة من البحر المتوسط ونهر الأردن سوى السيادة الإسرائيلية، ورفض إخلاء أى مستوطنة، والإبقاء على القدس موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل، ورفض أى عودة للاجئين الفلسطينيين حتى إلى المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية). هذا الأمر الواقع تحول، عند ترامب، من كونه مجرد «شروط للتسوية» إلى ممارسة فعلية للنفوذ والتهويد الكامل للمدينة عبر العديد من الخطط والمشروعات، دون أى قدرة فلسطينية أو عربية على تغييره، على مدى السنوات الماضية، ومن ثم فإن قرار الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل ليس قراراً منشئاً لواقع بقدر ما هو اعتراف بواقع بات من الضرورى التعامل معه «بشجاعة» من منظور الرئيس الأمريكى ضمن مشروع للتسوية على أساس من «حل الدولتين» بالتصور الذى يخطط له ترامب تحت مسمى «صفقة القرن»، الأمر الذى يعنى أن الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل هو المدخل العملى والموضوعى الذى يراه ترامب مناسباً لإقناع إسرائيل بالقبول بإقامة دولة فلسطينية.

يؤكد هذا الفهم تعليق نتانياهو على قرار ترامب فور إعلانه. فقد اعتبره «محطة مهمة فى تاريخ القدس، وإعلانا تاريخيا يعترف بحقائق تاريخية» فضلاً عن تأكيده بأنه «سيتحول إلى سقف يلزم الفلسطينيين بمواصلة التسوية انطلاقاً من التسليم به» وأنه «لن يكون هناك سلام من دون الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل». ما لم يستطع ترامب أن يدركه أنه بهذا القرار أنهى كل ما كانت تتمتع به بلاده من مكانة فى «مشروع السلام الوهمي» الذى عاشه العرب منذ انخراطهم به، وأنه أنهى «الدور الوظيفى الأمريكي» فى العلاقة بين العرب وإسرائيل، فقد أسقط «معادلة تاريخية» كانت لها أطرافها الثلاثة: الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية «المعتدلة»، حيث كانت إسرائيل تمعن وبتنسيق مع واشنطن، فى العدوان والتنكيل بالشعب الفلسطيني، وكان العرب بدورهم يناشدون الولايات المتحدة بالتدخل لمنع العدوان والتهدئة مقابل دفع الأثمان المطلوبة إما بشراء صفقات أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات، أو باستثمار المليارات فى أوعية ادخارية واستثمارية أمريكية. وكانت إسرائيل تتراجع عن العدوان، أو تقبل بالتهدئة الأمريكية مقابل الحصول على الثمن فى شكل «نسبة من المكاسب». هذه المعادلة الخبيثة فضحها آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق عندما اعترض على المقابل «المحدود» الذى كانت تحصل عليه إسرائيل وطالب واشنطن بـ«دفع فارق الفاتورة».

لم تُعد واشنطن بعد الآن، بفضل ترامب، وسيط سلام، لكن الأهم أنها باعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل أسقطت «خيار السلام» الزائف، وأعادت لـ «خيار المقاومة» اعتباره، وأكدت نهاية مشروع التسوية، كما أعادت تأكيد وضع إسرائيل عدواً أوحد للعرب، ووضعت نهاية مبكرة لما عملت مع تل أبيب على فرضه من معادلة جديدة للصراع تجعل إيران هى العدو وتجعل من إسرائيل حليفاً للعرب ضمن استقطاب إقليمى بين «محور سُني» و«هلال شيعي».

سقطت كل رهانات السلام وسقطت معها كل رهانات ترامب، وها هم العرب يستعيدون وعيهم بقضيتهم المركزية، فلسطين والقدس والأقصى، وها هو العالم كله ينتصر للحق ويتصدى للاستهانة الأمريكية بالشرعية الدولية، وقبل هؤلاء جميعاً ها هم الفلسطينيون يجددون انتفاضتهم دفاعاً عن الأقصى ويستعيدون نضالهم لاسترداد فلسطين.. كل فلسطين. واقع جديد حوَّل الولايات المتحدة إلى «دولة منبوذة» بل ومارقة، لاستهانتها بالقوانين والأعراف الدولية، كما هى حال حليفتها الصهيونية، غير الواقع الذى كان يطمع ترامب أن يفرضه عنوة على الفلسطينيين والعرب بمقايضة القدس بـ «صفقة وهم» من صفقاته التى اعتادها قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة.