سمير عطا الله 

للوهلة الأولى يبدو عنوان الكتاب مثل قصيدة: «جماليات المكان في الرواية العربية» لشاكر النابلسي، لأنه لا يتناول من الرواية العربية أحداً سوى أعمال غالب هلسا. إذن، ليس هو بدراسة وافية، أو شاملة، لظاهرة المكان عند جميع الروائيين العرب كما عند سواهم. ولكن احذر ماذا: شكراً للنابلسي أنه اكتفى بأعمال هلسا. ولولا كثافة النقد والسرد والإعجاب الواضح، لشعر القارئ بأن كتاباً موحداً (325 صفحة) في موضوع الأمكنة عنده لا يكفي.
ولا ندري لماذا جعل عنوان العمل «جماليات المكان». الأقرب إلى المصنَّف هو «دراميات المكان»، أو «بطولة المكان»، أو «شخص المكان»، أو «دور المكان» عند هلسا. فالمكان هنا ناطق وشريك في السرد، ويعبر، مثل الراوي، عن دواخل الناس، ويحركهم، فيما يبقى هو جامداً: «أثاث الحجرة يجمع بين القدم والضخامة وعدم الذوق. طلاء الحجرة الأصفر مع الستائر الحمراء الغامقة، والمكتب الضخم الذي يزحم الحجرة حتى الاختناق بمقاعده المستديرة... تلك الكنبات الضخمة جعلت كل شيء يبدو هشاً كأنه صنع من الورق المقوى. الشيء الوحيد الراسخ الصلب في هذه الحجرة هو هذه الكنبات القبيحة ذات الطراز الفرنسي، وزخارفها المطلية بماء الذهب».
أين الجمال إذن في هذا الوصف؟ إنه فقط في ذر التفاصيل وتكثيفها بحيث تصبح أيضاً رسماً لكآبة الناس في هذا المكان. حجرة «يزحمها» مكتب ضخم. لماذا لا نقول إذن «شاعرية» هلسا في توظيف المكان جزءاً عميقاً من الرواية، تماماً كما يحدث في المسرحيات عندما يصبح ترتيب المسرح هو الدليل إلى مناخ المسرحية وزمنها وأبطالها.
ينقل غالب هلسا الأمكنة في رواياته مثل الدمى، ويعطف عليها ويرفق بها. حتى المطبخ له وجود ودور. ويقول النابلسي إن سبب ذلك هو أن هلسا كان عازباً يمضي كثيراً من الوقت في إعداد طعامه. ويصفه بأنه «أكول» و«شَرِه» و«لعل هذا مما عجّل في وفاته». ألم يكن في إمكان الناقد أن يكون أكثر ترفقاً ببطله؟ كالقول إنه كان «يتذوق» الطعام بدل «الشراهة»، أو عدم الإشارة إلى أن الشراهة كانت سبب التعجيل بوفاته؟
هذه الواقعية المسيئة عن غير قصد إلى هالة الروائي، لا تقلل من إعجاب النابلسي وتقديره، لرجل ما كان أعطي شيئاً من حقه في الرواية، لولا النابلسي. هنا تبرز أهمية المكان للروائي نفسه، وليس للرواية. فلو كان غالب هلسا مصرياً، لما كان أقل شهرة من إدوار الخراط الذي جعل الإسكندرية وأمكنتها حبر الرواية.