يوسف الكويليت

في سفره الكبير والعظيم للدكتور «جمال حمدان» (شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان) يرسم لنا دور الجغرافيا في نشأة هذا البلد وحضاراته المتوالية وتمازج الإنسان مع الأرض بدورة تاريخية فريدة من نوعها..

لا يعنيني في الموضوع فلسفة التاريخ، وإنما جاذبية الإنسان المصري حين تضعه في ميزانه الحقيقي بعواطفه المتدفقة وأصالته الأزلية..

فعلى مر عقود أزور هذا البلد العظيم في كل شيء، لم يكن يهمني بعض الأصدقاء من المثقفين، أو الطليعة المخملية، بل المشهد الطبيعي لمن تراهم على أبواب المباني، وسائق «التاكسي» ورواد المقاهي داخل القاهرة أو الإسكندرية، هؤلاء البسطاء بدخولهم المتواضعة الذين لم يفقدوا حميمية الإنسان، حتى أن السياسة التي حاولت أن تنتقم من وحدتهم فشلت حين ترى التجاور بالأحياء لأسر مسيحية ومسلمة تتبادل التهاني بالأعياد والمناسبات، وترى لوحات المحال التجارية لاسم (بطرس) بجوار اسم (علي) دون أي حساسيات دينية أو مذهبية..

في مصر لا تستغرب من يعود بك إلى أصوله العربية، واليونانية والتركية، أو السودانية، وأرمنية وغيرها، فهي معدة هائلة هضمت الأرومات ووحدت الأجناس في تركيبتها الاجتماعية، فصارت خارطة للتعايش دون تمييز للون أو أصل..

من يتصور أن هذا البلد الذي يعيش ظروفاً اقتصادية معقدة، يستضيف على أرضه ما يصل إلى عشرة ملايين من السودانيين، والعراقيين، والسوريين والليبيين، وآخرين من مهاجرين، طوعياً، فتحوا محلات تجارية، وشاركوا بأعمال مختلفة، وتزاوجوا دون أن ترى استنكاراً شعبياً، أو لافتات تحذر من يقاسموهم لقمة عيشهم مثل بلد عربي نكب بحرب أهلية واستضاف مهجري دولة مجاورة، لكن رد الفعل أن طوردوا ورفعت شعارات عدوانية ضدهم..

شعب مصر لا يصطنع محبته للآخر، فرغم اختفاء «النكته» التي ميزت فرحهم إلا أنهم مؤمنون بقدرهم المتفائل دائماً، وهذه صفة ملازمة لهم، فهم من يضحك على مأساته أو فرحه، في كل الأزمنة، وُجود لا يتلاشى بسراب الطائفية والعشيرة، لأنه ولد على أرض لا تموت بالتقادم والمستقبل..

من الذكريات الرائعة أن كان لي مدرس مصري بالمتوسطة، هو من تلقى أول مقال لي في جريدة «القصيم» بعنوان (الوقت يصنع الحياة) وكان مصدر فرحه أن يكون من بين طلبته من يكتب مقالاً متصدراً الصفحة الأولى بين أسماء مشهورة مثل الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان، والأساتذة سعد البواردي، وضحيان العبدالعزيز والدكتور إبراهيم العواجي وغيرهم، فأعطاني الثقة بأن يغامر مراهق بالكتابة بتلك الجريدة دون أن يواجه صدمة مدير المدرسة ومساعده، وقراء آخرين وضعوني سارقاً المقال، أو مكتوباً من طرف آخر، وهي تهم تبددت مع توالي الكتابات بعدة جرائد أخرى..

مدرسي نموذج لآباء علمونا قيم المجالدة والصبر، والتعالي على المعوقات حتى أنه بعد نهاية العطلة الدراسية حمل معه عدة كتب هدية شخصية منه جلبها من مصر، فكانت مصدر اعتزاز لإنسان لازلت أكن له ولبلده كل الحب..