السيد ولد أباه
من الملاحظ أن كل الجمهوريات العربية حكمها الجيش منذ عهد الانقلابات العسكرية التي بدأت في سوريا عام 1949، وتمددت من بعد إلى بقية أطراف العالم العربي في شكل «ثورات شعبية» و«حركات تصحيحية».
ومن الجلي اليوم أن البلدان التي تحتل واجهة الأحداث (سوريا والعراق وليبيا واليمن) هي بلدان حكمتها أنظمة عسكرية، وهي راهناً في قبضة مليشيات متحكمة تدير حالة العنف الداخلي المتفجر.
ولا شك في أن أكبر معضلة تواجه حالياً الأمن الإقليمي العربي هو الدور المتنامي للمليشيات السياسية المدعومة من الخارج (إيران وتركيا على الأخص)، بحيث لم يعد الأمر يتعلق في الواقع بأوضاع انتقالية عابرة، بل بتشكل نمط جديد من الأنظمة السياسية وفق قواعد وآليات جديدة في تسيير السكّان والمجال الإقليمي.
للأنظمة العسكرية السابقة جملة خصائص مميزة أبرزها المركزية في البناء التنظيمي بما حمل مؤسسة الجيش على أن تدعي لنفسها القدرة الفعلية على حماية البلاد وإنقاذها في ظروف الخطر والاحتقان، باعتبارها القوة التحديثية الوحيدة المنظمة والمتعالية على التركيبة القبلية والعرقية والدينية. ولعل الهندسة السياسية الاستعمارية راعت هذه الأبعاد في تأسيسها للمؤسسة العسكرية وتحميلها هذا الدور المحوري، في حين ورثت بعض الجيوش الحاكمة حركات التحرر الوطني المسلحة وأسست شرعية الحكم على هذا الدور التاريخي (الحالة الجزائرية مثلاً). ولا بد من التنبيه هنا إلى أن عسكرة الحياة السياسية العربية امتدت إلى الأحزاب ذاتها التي تحولت في بعض الأحيان إلى تنظيمات أيديولوجية مسلحة (كما هو شأن «حزب البعث العربي الاشتراكي» مثلاً).
فشلت الأنظمة العسكرية العربية في بناء مشروع الاندماج الوطني حتى في السياقات التي فرض عليها فيها الانتقال التكتيكي إلى الديمقراطية التعددية واعتماد واجهات مدنية، وبرز من الجلي أن معادلة التكيف أفضت إلى نتيجتين متلازمتين: إضعاف المؤسسة العسكرية نتيجة لتحميلها أدواراً سياسية وأمنية غير مهيأة لها، وجرف الصراع السياسي تحت وطأة الاحتقان وانسداد آفاق التناوب السلمي على السلطة إلى المعارضات المسلحة الخارجة على الشرعية.
إن هاتين النتيجتين ظهرتا بقوة في البلدان التي انهارت فيها الأنظمة الحاكمة، ولم يكن فيها المجتمع السياسي قادراً على وضع قواعد توافقية للهندسة السياسية البديلة. ومن هنا الثغرة التي تسللت منها المليشيات السياسية التي تتوزع إلى ثلاثة أصناف كبرى: المليشيات العسكرية المنشقة عن الجيوش المنظمة التي كانت حاكمة (مثالها الجيش النظامي في سوريا)، والمليشيات الطائفية المدعومة إيرانياً («حزب الله» اللبناني والتنظيم الحوثي اليمني والحشد الشعبي في العراق)، والمليشيات الأيديولوجية (مثل التنظيم الإخواني الليبي الحاكم في طرابلس بدعم تركي).
الأنظمة المليشياوية، وإن كانت مسلحة، فإنها تختلف عن «الأنظمة العسكرية» في كونها وإن احتكرت عملياً العنف، فإنها عاجزة عن التحكم في كامل المجال الإقليمي للبلد وغير قادرة على ضبط النسيج الأهلي في تنوعه، بل تظل في نهاية المطاف، مهما كانت قوتها وتحكمها، عنصراً من عناصر تفكك الجسم الوطني ومظهراً من مظاهر أزمة البناء الوطني.
ما نلاحظه راهناً في الساحات الملتهبة في العالم العربي معاكس للمسار الذي درسه عالم الاجتماع الأميركي «رتشارد تلي» في تتبعه لأثر الحروب في تشكل الدولة الأوروبية الحديثة وفق قانون «الحرب تصنع الدولة والدولة تتقوى بالحرب» (war making and state making)، لأن المليشيات المتحكمة هي أثر لانهيار الدولة وعامل تفكيكها وتقويضها بالحيلولة دون انبثاق أي عقد اجتماعي ناجع، وهكذا تتحول القاعدة الاقتصادية للدولة المنهارة إلى اقتصاد جريمة تتحكم فيه الزعامات المليشياوية بما يولد واقعاً سياسياً له مقوماته الثابتة.
إن هذه المعادلة تضع القوى العربية الفاعلة أمام مسؤولية جسيمة في مواجهة الأنظمة المليشياوية المدعومة من الخارج، باعتبار حرصها على وحدة هذه البلدان المنكوبة وتلاحم نسيجها الوطني بما يضعها في مواجهة محتومة مع المجموعات المسلحة وأجنحتها الأجنبية الحاضنة والراعية.
لقد لاحظ عالم السياسي الفرنسي «برترناد بادي» أن النظام الدولي انتقل من مفهوم «صراع القوة» إلى «صراع الضعف»، مبيناً أن مفتاح النزاعات الجديدة هو عجز القوى العالمية عن التعامل مع التحديات السياسية والأمنية التي يطرحها انهيار المجتمعات والدول، وما يترتب عليه من انشقاقات وتنظيمات مسلحة. ومن هنا التلازم الضروري بين منطق التدخل لإنفاذ الدولة الوطنية المركزية وحمايتها من الاختراق الخارجي والدبلوماسية السياسية الاجتماعية لانتشال نسيجها الأهلي وإعادة ترميم وتوطيد عقدها الاجتماعي الداخلي.
التعليقات