شورش درويش

يحتفظ سجل كردستان العراق بذكرى الحرب الأهلية المؤلمة، التي قلّما يتذكرها الإعلام الكردستاني كذكرى مشؤومة. فيتم، عن عمد وعن ندم، تخبئة هذه الذكرى التي عصفت بكردستان خلال الأعوام 1994-1996 وما خلّفته من ذكريات يصعب تجاوزها، أفضت حينها إلى مقتل وإصابة الآلاف، ومسحت قوى عشائرية من خريطة التأثير داخل كردستان، وتراجعت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.

ولم تتوقف رشقات الحرب بين الحـــزبين حتى تمكنت الخارجية الأميركية ووزيرتها مادلين أولبرايت من تقـــريب الطــرفين المتنازعين عام 1998 ليـصـــار إلى تشكيل إدارة موحّدة، بعدما عانت كردستان، فوق حربها الأهلية، ضعفاً إدارياً وانقساماً ذاتياً. هكذا تراجعت قدرة بغداد وطهران على التدخل في الصراع الكردي المحلّي وتغذيته.

اليوم تطل مسألة تواجد قوات حماية سنجار (YPSH) التابعة لحزب العمال الكردستاني برأسها مجدداً. فهذه القوات ملأت، بعيد الإبادة التي تعرض لها الإيزيديون على يد «داعش»، الفراغ الناجم عن ترك قوات البيشمركة التابعة لأربيل مواقعها، ما أفسح المجال في شكلٍ درامي لعمليات قتل وخطف تعرّض لها السكان المحليون، لتقوم وحدات حماية سنجار ووحدات حماية الشعب في الضفة السورية بتأمين ممر ساهم في إنقاذ عشرات الآلاف من العالقين من سكان المنطقة. وهذه المسائل وسواها رفعت رصيد العمال الكردستاني الذي يجيد لعبة ملء الفراغ الكردي.

مع اندلاع المواجهات المسلحة الأخيرة، وقع المحظور والمتوقع: الصدام المباشر بين وحدات حماية سنجار وقوة تابعة للديموقراطي الكردستاني جلها من كرد سورية تسمى بقوات الشمس أو «بيشمركة روجآفا»، وهي تشكيل كردي سوري يبلغ بضعة آلاف ويحظى بدعم رئاسة الإقليم. ولا تخفي خطوة إشراكهم في هذه المعركة البعد الرمزي الذي يتكئ عليه الديموقراطي الكردستاني في أنه يمتلك تحريك العديد من أوراقه الراكدة. وعلى رغم التكتم على عدد القتلى والمصابين في الجانبين، تشير الأنباء إلى وقوع إصابات محققة وإلى إمكانية تجدد الاشتباكات والتجهيز لمعارك أشد ضراوة بين الطرفين.

على رغم الوعود التي قطعتها وحدات حماية سنجار والعمال الكردستاني من أن مهمتهم في سنجار محض قومية وإنسانية، فإنهم لم يقوموا بما تعهدوا به، ما دفع بارزاني وقواته إلى التحرك بغية إرغام تلك القوات على إفراغ المنطقة وإعادتها إلى سيطرة قوات البيشمركة. ولعل السؤال الأهم حول إصرار العمال الكردستاني على الاحتفاظ بمواقع سيطرته في سنجار يعكس إستراتيجية طامحة لدى الحزب بربط مناطقه شمال سورية التي يسيطر عليها بالمناطق الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني مروراً بمناطق تابعة لحكومة بغداد. 

ذلك أن المعبر الوحيد الذي يربط كردستان العراق بشمال سورية في شكل رسمي (معبر سيمالكا) بات يشكل مادة للتجاذب السياسي والضغط الاقتصادي بين الجانبين. وعليه فحل الممر الممتد بين مناطق الشمال السوري، مروراً بسنجار ومناطق تابعة لحكومة بغداد، إلى مناطق سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني قد يفضي إلى تطويق أربيل وإضعاف سيطرة بارزاني. لذلك فإن لعبة الحضور التي يخوضها الطرفان تأخذ أبعاد الصراع المباشر، لكن المتبرّم من الالتزامات القومية والمصالح الكردية العليا. ولعل المصالح الاقتصادية التي تقف خلف الرغبة في السيطرة على سنجار لن تكون سبباً هامشياً عند التفكير في سرِّ سنجار لما تمتلكه من موقع استراتيجي مؤثّر.

أما اعتبار تركيا وإيران المسعّرتين والمتحكمتين بتوقيت معارك سنجار، فمسألة تحوي الكثير من التلخيص والقفز على فكرة المصالح الحزبية، ذلك أن بنية الأحزاب الكردية الكبرى تقبل منطق الحرب الأهلية والاحتكام للسلاح سواء تمتعت بدعم إقليمي أم لا. فقد كانت الحرب التي خاضها حزبا الاتحاد الوطني والديموقراطي والتي تعرف في الأدبيات الكردية بـ «حرب الإخوة» منطلقة من نوازع حزبية صميمة ليأتي الدعم الإقليمي لاحقاً كأحد تداعيات الحرب وليس سبباً لها.

في 1994 شكل الأمين العام للاتحاد الإسلامي الكردستاني، صلاح الدين بهاء الدين، «لجنة السلام والتآخي» بغية التقريب بين الإخوة – الأعداء، فكان أن استثمر الاتحاد الإسلامي حينه في مسألة السلام. ولعل النجاح النسبي وقتها منح الحزب الشعبية والحضور داخل الساحة السياسية في كردستان العراق. أما الآن فالوضع يختلف، لا سيّما أن الاتحاد الوطني يبدو في وضع حرج، إذ تجمعه شراكة راسخة بالديموقراطي الكردستاني في مقابل علاقة إستراتيجية مع العمال الكردستاني.

ويبقى السؤال الكبير حول حضور أميركا التي تساند هاتين القوتين الكرديتين المتصارعتين. فذلك تم في ظل شراكة أميركية – كردية لعدم تبديد الجهود للقضاء على «داعش» في حروب ومعارك جانبية.

ويعرف الكرد جيداً أن في وسع أميركا وحدها وضع حد لما يحدث في سنجار، فهي - التي يعرفها الكرد - تملك مفاتيح الحل هناك إن لم نقل أنها تملك الأبواب أصلاً.